cover

خواطر 2018 -1

ما يخدم فكرة مشروع عند طرحها لأول مرة تحدي الفكرة والتشكيك بجدواها وإظهار عيوبها ونقائصها، هذا يؤدي إلى تطوير الفكرة وتحصينها بل ربما استبدالها بفكرة أفضل، ويؤدي إلى أمر أخر لا يقل أهمية: تأسيس أرضية مشتركة يقف عليها من تُطرح عليهم الفكرة وبناء الثقة فيما بينهم وتحقيق الحد الأدنى من التعارف والتفاهم والانسجام الضروري لنجاح أي عمل مشترك، ويؤدي أخيراً إلى تبني أفضل للفكرة لأنها تجازوت اختبارات التشكيك بالجدوى ولأن الجميع شعروا أنهم ساهموا في تطويرها. يقول البعض: يستغرق الأمر وقتاً ولا وقت لدينا، وهنا برأيي مكمن فشل أكثر مشاريعنا، كلام كثير على الورق وكلام قليل بين الناس. يقول ستيفن كوفي: في العلاقات الإنسانية، البطئ سريع والسريع بطئ. أي أن الوقت الذي يستثمره أفراد مجموعة في صنع الثقة وبناء العلاقات يصل بهم إلى حالة تجعلهم يتقدمون سريعاً بعد ذلك، بينما الانطلاقة التي تتجاوز هذه المرحلة وإن بدأت سريعة فإنها تتعثر وتبطؤ وغالباً ما تتوقف بعد فترة


تنقلب الاختلافات إلى خصومات عندما تتحول إلى معارك لإثبات الذات. معركة إثبات الذات تبدأ بفعل أو قول يتلقاه الطرف الثاني على أنه إهانة لكرامته، سواء كانت الإهانة مقصودة أو غير مقصودة، فيرد عليه بفعل أو قول فيه إهانة لكرامة الطرف الأول، ثم ينزلق الطرفان في اللولب النازل المعيب؛ الرد على الإساءة بإساءة أشد، وهكذا تنشأ الخصومات وتتطور سواء أدرك طرفاها ذلك أم لا

الإنسان السوري الذي سحقته عقود الاستبداد لديه جوع شديد إلى إثبات الذات ولم يعد يتحمل مزيداً من الحط من شأنه، ولأنه لم توفّر له البيئة المناسبة لتنمية الطرق السليمة في إثبات الذات أو في الدفاع عنها، يلجأ من غير وعي منه إلى طرق خاطئة كأن يحط من شأن الطرف الآخر عندما يشعر أن هذا الطرف يحط من شأنه كلنا معرضون للدخول في معارك إثبات الذات وإلا لكنا ملائكة تمشي على الأرض، لكن إدراكنا لطبيعة هذه المعارك يقلل احتمال انزلاقنا إليها ويساعدنا على الخروج منها بسرعة عند الانزلاق.


معركتنا الأساسية هي مع الظلم الذي وضعنا أمام خيارين اقتلاع كرامتنا أو اقتلاعنا من أرضنا، ونجاحنا في هذه المعركة مرتبط بنجاحنا في العمل معاً، وهذا بدوره مرتبط بنجاحنا في الحرص على كرامات بعضنا البعض وبالصراحة والتسامح والتراحم فيما بيننا مهما اختلفت الطباع وتباينت وجهات النظر


  عاطفتنا واحدة: ألم شديد مما ينزل بأهلنا على يد عصابة الإجرام وحلفائها، ومن حال التشتت الذي آلت إليه كلمتنا وقرارنا. وهدفنا واحد: تخليص بلادنا من المجرمين وبناء دولة العدل والقانون

وتعدد وجهات نظرنا في طرق تحقيق هذا الهدف وفي ترتيب الأولويات أمر طبيعي بسبب تعدد الأشخاص والخبرات والزوايا التي ننظر منها كل بحسب تجربته

 لا أحد منا على صواب دائماً، ولا أحد منا يستطيع أن ينظر إلى قضية من كل الزوايا، إنصاتنا إلى بعضنا البعض بنية الفهم لا الرد هو الذي يجعلنا كمجموعة أقرب إلى الصواب وأقدر على رؤية الصورة كاملة وبالتالي يجعلنا أكفأ في وضع التشخيص الصحيح واختيار العلاج المناسب

 المرونة لا تعني التخلي عما يراه المرء صواباً وإنما النظر إلى المسألة من زوايا أخرى والخروج حال الخلاف من الخيار الضيق؛ خيار الرفض أو القبول إلى الأفق الواسع؛ أفق البحث عن (البدائل الثالثة)

البديل الثالث هو البديل الابداعي الذي يحقق أغراض الجميع والذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالانصات بنية الفهم والتفكير بعقلية المنفعة للجميع والاستمرار في طرح الأفكار وتطويرها حتى الوصول إليه

كل ما سبق يبني الثقة بين العاملين التي لا ينجح عمل جماعي من دونها، والتي لا تبنى بين عشية وضحاها وإنما تحتاج إلى فترة من العمل المشترك

أعداؤنا كثيرون لكن عدونا الأول الذي يبيح لهم حصوننا هو تفرق كلمتنا


ليغرق المخنثون أخلاقياً في عارهم وهم يعيبون على المغتصَبة بصمت منذ خمسين عاماً أن استجمعت قواها وأنشبت أظافرها في عنق مغتصبها لتدفعه عن جسدها الطاهر مرة واحدة وإلى الأبد. ليغرقوا في عارهم وهم يعيبون على المغتصبَة ما أوقعت نفسها فيه من دم وجراح وألم وهي تستنقذ نفسها من براثنه، بينما يقدمون للمغتصب طقوس الطاعة والإذعان التي لولاها لما تجرأ واغتصب


وضعتنا الثورة في موقف يحمل خطراً كبيراً وينطوي على فرصة هائلة في الوقت ذاته لا شيء يرضي الضمير في زمن الثورة غير جهد عظيم يرتقي إلى مستوى التضحيات العظيمة التي تقدم من أجل حياة أكثر كرامة للإنسان السوري الكلفة النفسية لأن يعيش الإنسان لنفسه في زمن الثورة أعلى بكثير من الكلفة النفسية لأن يعيش من أجل قضيته. الحياة العادية أصبحت أكثر إيلاماً بكثير هذا هو التحدي الذي وضعتنا فيه الثورة وهو ينطوي على خطر عظيم ويحمل فرصة عظيمة في الوقت نفسه. فإما العجز عن ملاقاة هذا التحدي والشعور بالضياع والهوان أو الارتقاء إلى مستواه مع ما يتطلبه ذلك من عمل وجهد وتطوير مستمر للذات


الخروج من الحيز الشخصي إلى الحيز العام من أجل ممارسة حق حرية الاختيار وحق التعبير عن هذا الاختيار هو الذي أطلق شرارة التغيير الكبير الذي تشهده منطقتنا والعالم. خرج شباب الثورة وشاباتها من بيوتهم ومشاريعهم الشخصية واهتماماتهم الصغيرة إلى الشارع ليمارسوا حقاً لم يعرفوا ممارسته مذ جاءوا إلى الدينا، مع أنه الحق الذي منحهم الله إياه بوصفهم بشراً وميزهم به عن بقية المخلوقات وهو حق الاختيار الحر والتعبير عن هذا الاختيار، كانت الثورة استجابة لنداء الفطرة الإنسانية في تحقيق الكرامة الإنسانية، كانت استجابة شعبية إنسانية طبيعية لما كان مفروضاً على السوريين قبل آذار 2011 وهو العيش عبيداً بلا كرامة في مزرعة الأسد لماذا أذكّر بهذه الحقيقة البسيطة في هذا الوقت بالذات؟ لأن الثورة السورية فجرت صراعات مؤجلة محلية وإقليمية ودولية، ولم تعد الثورة ببعدها الشعبي الإنساني العامل الوحيد في المشهد السوري بل جزءاً من عوامل عدة ما كل خيوطها في أيدي السوريين، لكن هذا العامل بالذات هو ما يملك شباب الثورة أن يبقوا خيوطه في أيديهم وأن يفعّلوه إلى أقصى حد ممكن، وهو العامل الذي لا يمكن للعوامل الأخرى أن تتجاوزه ما دام موجوداً. الملايين تتوق إلى الحياة الحرة الكريمة في بلد اسمها سورية، يكفي لعشرة آلاف مخلص ممن (جوهَرَتهم) هذه الثورة بنارها في طول الأرض وعرضها أن ينظموا صفوفهم ويجمعوا كلمتهم حتى يلتف حولهم هؤلاء الملايين. يكفي لعشرة آلاف مخلص من الثوار في طول الأرض وعرضها أن يستثمروا بحركة شعبية منظّمة 95% من الكمون الغائب بسبب التشتت وغياب التنظيم والإدارة ليساهموا في إبقاء مطالب الثورة حية حتى لا تضيع في دهاليز السياسة وفي استنقاذ بلدهم من براثن الاحتلالات المتعددة وإعادة بناء ما هدمه الطغيان في الإنسان السوري طوال أكثر من نصف قرن


لم يكن السوري صاحب قرار في يوم من الأيام. كان النظام بأجهزته الأمنية الثلاثة عشر هو الموكل حصرياً بتغييب إرادة السوريين إرضاءً لإرادات الآخرين من إسرائليين وإيرانيين وروس وأمريكيين قامت الثورة وعجز النظام عن القيام لوحده بالمهمة التي وجد من أجلها وهي تغييب إرادة السوريين فجاء الأخرون بقواتهم ليساعدوه في المهمة بشكل مباشر لم تكن إرادة السوريين حاضرة كما هي اليوم، صحيح أنهم لم ينضجوا بما يكفي ليفرضوا إرادتهم على إرادات الأخرين، لكنهم ماضون في طريق النضج الذي ما كانوا ليبدأوه في ظل الاستبداد وقبل أن تطلق إرادتهم صرخة الولادة (الشعب يريد ..) عشية آذار 2011


تحريك الناس للمشاركة في الأعمال السلمية كالوقوف في اعتصام او توقيع عريضة لا يتم ببوست أو رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي. هو يحتاج إلى 1- إيصال القناعة للناس بجدوى هذه الأعمال. يحتاج ذلك إلى توعية عن طريق مواد إعلامية توصل المعلومة بشكل واضح وسريع (انفوغراف – رسوم متحركة - .....) توضح هذه المواد كيف تؤثر الأعمال السلمية في صناع القرار مع أمثلة على نجاحها في قضايا مشابهة. الناس لا تمتنع عن المشاركة لأنها لا تحب بلادها ولاتريد رفع الظلم عن أهلها لكنها غير مقتنعة بجدوى المشاركة 2- صناعة الوعي بأن الفعل السياسي يحتاج إلى أدوات قوة متعددة العمل المدني أحدها ولا يشكل بديلا عن الأوراق الأخرى. المقاتل على الجبهة والسياسي على طاولة التفاوض والناشط المدني في الشارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي عندما يعملون معا وفق بوصلة واحدة يتحقق الأثر المطلوب 3- بناء شبكات منظمة من الأشخاص المقتنعين بجدوى هذ الأعمال المستعدين للالتزام بما تقتضيه من مهام. تتكون الشبكة من مجموعات صغيرة (5-10 أشخاص) يعرفون بعضهم بشكل شخصي وكل شخص في كل مجموعة يشكل مجموعته الخاصة. هؤلاء الأشخاص يعرفون تماماً ما الذي يقومون وكيف يؤثر في صانع القرار ويتواصلون بشكل شخصي عند الدعوة للمشاركة بنشاط ما 4- يحتاج كل ما سبق إلى مؤسسات ثورية وسياسية (أحزاب) تحرك الإمكانيات الهائلة التي يملكها السوريون المستعدون لخدمة بلدهم وأهلهم. يحتاج إطلاق هذه الإمكانيات الهائلة وتوجيهها لتتحول إلى فعل سياسي له أثر إلى تجميع وحسن إدارة وتنظيم وهذا لا يتم بجهود فردية وإنما بأعمال جماعية منظمة أخيراً، أن ما نمر به يغرس في قناعاتنا عميقاً وبطعم الدم والألم ضرورة قيام تلك المؤسسات والأعمال الجماعية المنظمة التي يجمع فيها الأخيار أنفسهم. إن عريضة يوقع عليها ثلاثة ملايين سوري على رأسها آلاف الأكاديميين والكتاب والشخصيات العامة المؤثرة يمكن أن تحدث أثراً إذا وقعت بالشكل المناسب وقدمت للجهة المناسبة في الوقت المناسب. وإن عشرة آلاف سوري يرفعون صورة بوتين على شكل هتلر حول السفارة الروسية في استنبول أو في عاصمة غربية يمكن أن تحدث أثراً. الثلاثة ملايين المستعدون للتوقيع والعشرة آلاف المستعدون للمشاركة في المظاهرة موجودون لكن تحريكهم لا يتم ببوست، هو يحتاج إلى جهد جبار في التوعية والتنظيم يستغرق أشهراً وربما سنوات. ليس أمامنا إلا طريق الألف ميل هذا، وهو يبدأ بخطوة


في الذكرى السابعة لانطلاقها لماذا نقول (الثورة مستمرة)؟

الثورة مستمرة .. ليست شعاراً رومانسياً أو إنكاراً للواقع وإنما موقف سياسي يرد المسألة إلى أصلها: شعب يطالب بحريته الثورة مستمرة ... لكي تتصل أول الصيحات التي كسرت حاجز الخوف في شوارع دمشق ودرعا مع آخر الصيحات التي هتف بها أهل إدلب وهم يواجهون سلطة تريد أن تتغول عليهم باسم الدين الثورة مستمرة ... ليكون زخم الدم من أول قطرة دم في درعا إلى آخر شهيد يقدمه السوريون نهراً واحداً متعاظماً في هديره وقوته يدفع في اتجاه واحد لا عودة عنه: حرية السوريين وكرامتهم الثورة مستمرة .. لكي يعرف كل من يقف في وجه حريتنا في التعبير والتنظيم أنه يأخذ مكان النظام، وأنه يقف في مواجهة دم مليون شهيد الثورة مستمرة ... لأنها ليست مساحة خضراء على الخارطة تتوسع أوتتقلص وإنما إنسان سوري تحرر من خوفه وبدأ ينتزع من جلاديه المساحة التي يستحقها لممارسة حقوقه الثورة مستمرة .. لأننا حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لم ننتزع بعد إلا جزءاً بسيطاً من المساحة التي نستحقها لممارسة حقوقنا كبشر. وإدراكنا يزداد يوماً بعد يوم للمساحة الهائلة المتبقية وما تضمره من فرص، وثقتنا تزداد يوماً بعد يوم بالقدرة على انتزاع ما تبقى لأن الشهداء ما زالوا يرتقون .. ولأن التهجير مستمر .. ولأن الملايين ما زالوا في المخيمات .. ولأن مئات الألوف ما زالوا في المعتقلات ..


علينا ألا ننتظر اجتراح الحلول والصبر عليها من السياسي والكاتب المعارض الذي يحمل ذات القناعة التي يبرر بها النظام وجوده منذ أكثر من نصف قرن وهي أن السوريين لا يجمعهم إلا البسطار العسكري كسر ما اعتاد عليه الناس من أنماط التفكير والسلوك ومد جسور الثقة بينهم وبناء قدرات التواصل والعمل الجماعي والتعامل مع الاختلافات تحتاج إلى جهد ووقت وصبر ولكنها تحتاج قبل كل شئ إلى الايمان بأن الإنسان السوري بشر كغيره لم يخلقه الله معوجاً لا يمكن إصلاحه وإلا كان الخالق ظالماً حشاه الإنسان السوري بشر كغيره مبتلى بأمراض ثقافية قابلة للعلاج صنعتها عشرات السنين من القهر الشديد وسحق الذات والحرمان من فرص النمو الطبيعي التي حظيت بها المجتمعات الأخرى


ربينا على أننا كأحجار الشطرنج التي يحركها الآخرون لا نملك من أمرنا شيئاً ولا نستطيع أن نملك من أمرنا شيئاً وما علينا إلا الخنوع. بقايا هذه التربية في عقلنا الباطن هي التي تجعل بعضنا يشعر بالهلع كلما صرح رئيس هنا أو ملك هناك أن الأسد باق أو أن سياسة هذه الدولة أو تلك ستتغير لصالح الأسد عندما قررنا أن نكفر بنظرية أحجار الشطرنج هذه لم نكن ننتظر إذناً من أحد أو دعماً من أحد في ثورتنا على الطاغية من أجل حقوقنا كبشر. ما سيبقي عصابة الأسد أو يزيحها عن كاهل السوريين ليس قرار من هذا الرئيس أو ذاك الملك وإنما القرار الذي اتخذه ملايين السوريين قبل سبع سنوات عندما خيروا بين الحياة أو الكرامة فهتفوا: الموت ولا المذلة. حجم التضحيات التي قدمها السوريون بعد ذلك تظهر أنها أصدق عبارة قالها شعب على مر التاريخ. بهذا تنال الشعوب الحياة والكرامة معاً في نهاية المطاف بإذن الله تعالى


من يظن أن سقوط الغوطة يعني بداية عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة عليه أن يدرك أننا لسنا في الثمانينات النظام هدم المعبد على رؤوسنا لكنه هدمه على رأسه أيضاً ورحيله مؤجل مؤقتاً إلى أن يستوفي مشغلوه فاتورة ما دفعوه لإطالة بقائه. هو لن يكون قادراً على حكم الخرائب ولا على إعادة إعمارها والعالم على بشاعة تواطؤه معه لن يكون قادراً على إخفاء جرائمه ولا على إعادة تأهيله. الخلاص من الأسدية حتمي بتفاعلات إقليمية ودولية تندرج ضمن قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وما هو آت أكبر مما مضى


الانظمة السياسية إما أن تقوم على أسس راسخة كالتنمية والعدالة الاجتماعية والنهضة العلمية والاقتصادية ولا يكون ذلك بغير إنسان يُعامل بقدر من احترام الكرامة يمكّنه من بناء هذه الأسس. أو تقوم على تناقضات داخلية وخارجية تلعب فيها الأنظمة دور الممسك بالصاعق الذي يهدد الاخرين – إن هددوا وجوده - بسحبه وإحراق الجميع ولا يكون ذلك بغير إنسان مأزوم مسحوق الكرامة توظفه هذه الأنظمة في تغذية هذه التناقضات. من مكر الله واستدراجه للظالمين أن التناقضات لا تظل على حال واحد من الشدة ولا تتساكن فيما بينها بل تتقاعل وتتفاقم إلى أن تبلغ درجة الإنفجار. الأنظمة الطاغوتية من صدام إلى القذافي الى علي بن صالح إلى حافظ ومن بعده بشار هي من النوع الثاني من الأنظمة لذلك نهاية النظام السوري محتومة بغض النظر عن التوقيت والتفاصيل. طبعاً نهاية نظام مجرم لا تعني بروز نظام عادل تلقائياً هذا يحتاج إلى عمل كبير وطويل لكن هذا العمل لا يمكن أن يبدأ به إنسان مسحوق الكرامة. لذلك تأتي الثورات كانتفاضة اللحظة الأخيرة للفطرة الإنسانية في الدفاع عن كرامتها قبل سحقها نهائياً. هي من (حلاوة الروح) كما يقولون وهي – اي الثورات - كما كانت عبر التاريخ مجرد نقاط انعطاف وبدايات


الكل مستعد ليطأطئ صاغراً ويتحمل الإهانة .. الأمريكيون ومن معهم من دول الغرب اذ يجعجعون ولا يكون الطحن إلا ذرا والروس إذ يُضرب حليفهم بين ظهرانيهم دون أن ينبسوا ببنت فعل وعصابة الخسيس  اذ يفرح أنصاره البُلّه ويدبكون محتفلين بتلقى الصفع عن يمين وشمال وحدهم الاحرار السوريون الذين كفروا بالخضوع لهذا النظام والعالم الذي يحميه من يأبون الصّغار ويرفعون جباههم الدامية في حفلة الخسة هذه وكأن قدرهم أن يطهروا العالم بدمهم من القذارة التي وصل إليها

قد لا تكون ملزماً من الناحية الأخلاقية بأن تعد الناس بشئ، بأن تتطوع، بأن توافق على تخصيص بعضٍ من وقتك وجهدك ومعرفتك وخبرتك في خدمة قضية معينة. ولكن ما إن تفعل، أمامك التزام أخلاقي بأن تفي بما وعدت به الخيار في ترتيب الأولويات يكون قبل الوعد أما بعده فالأولوية للوفاء لما وعدت به. (يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود) ضعف التزامنا بها جعل الكثير من مشاريعنا التي تحتاج إلى مبادرين متطوعين تبدأ بحماس ثم تذهب أدراج الرياح


لا تستغربوا، الرقص والدبك والزمر بعد مئات الغارات هي طقوس عبادة، هي احتفال بأن بشار باق لا يزول. وكلما رسخت عندهم هذه (العقيدة) كان انهيارهم أسرع لحظة زواله


لأن الثمن كان غالياً جداً نجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إحباط هائل بسبب عدم القدرة على تحقيق ما يوازي الثمن، أو عزيمة هائلة على الارتقاء بالنفس وبناء القدرات وتطوير الأدوات حتى نصبح قادرين على تحقيق ما يوازي الثمن. في زمن الثورات يصعب العيش في منطقة وسطى


كيف نصبر على الحفر في الأرض مهما اعترضنا من صخور ما لم نؤمن أن كنزاً ثميناً في الأعماق يستحق كل الجهد والعناء؟ هذا ما يفعله القادة عندما يصبرون على إخراج أفضل ما في نفوس الناس مهما اعترضهم من مقاومة حتى من الناس أنفسهم! وهذا أكثر ما يحتاجه السوريون اليوم بعد عقود من التحطيم الممنهج دفعهم إلى الكفر بأنفسهم والإيمان بالطاغوت!


الموقف من عصابة الأسد ليس موقفاً سياسياً بل موقف أخلاقي والصراع معها ليس خلافاً بين سلطة ومعارضة بل صراع وجودي أي عمل سياسي (معارض) لا ينطلق من هذه الحقيقة لن يساهم إلا في إطالة الصراع وزيادة كلفته


أرسل الله الخير ففاضت شوارع دمشق سيولاً تجرف كل شيء لأن النظام سد السبل التي توجه هذا الخير وهذا ما فعله بنا طوال عشرات السنين، كمَّ الأفواه وكبلَّ العباد وسدَّ علينا سبل تفعيل ما آتانا الله من طاقات ففاضت البلاد ثورة تجرف كل شيء!


النظام عاجز عن صرف نصره العسكري سياسياً بسبب طبيعته الإجرامية ونحن عاجزون عن استثمار عجزه سياسياً بسبب تشتتنا. اليوم لدينا أرض تحت النفوذ التركي يمكن أن نقيم عليها نموذجا لحكم رشيد يكون نواة لسورية المستقبل. تجربة ناجحة في الحكم والادارة واعادة الاعمار على تلك الأرض بقيادة سياسية عسكرية واحدة تنال الشرعية داخلياً وخارجياً بإنجازاتها وتلبيتها لحاجات الناس من أمن وتعليم وطبابة وعمل يمكن أن تكون البداية لنهاية مأساة السوريين. أرض يتمنى السوريون في مناطق النظام الانتقال إليها لما توفره من فرص وكرامة تماماً كما كان الألماني يتمنى الهروب من الشرقية إلى الغربية أو الكوري من الشمالية إلى الجنوبية. يمكن أن يكون هذا مشروع الثورة في طورها الجديد


ألسوري الأمي أصبح يعرف أن الدول لا تريد انتقالاً سياسياً حقيقياً في سوريا. هذا ليس اكتشافاً عظيماً ليتصدى (معارض) لإعلانه على السوريين. ليست مهمة السياسي أن يخبر من يمثلهم برؤية الدول تجاه قضاياهم وإنما أن يخبرهم برؤيته هو والتي يجب أن تكون منبثقة من رؤيتهم ومعبرة عن إرادتهم. وخطابه لمن يمثلهم يجب أن ينصب على إقناعهم بأن المسار الذي يمضي فيه سيحقق إرادتهم في نهاية المطاف. ولكي يصدر منه هذا الخطاب يجب توافر ثلاثة شروط: 1- أن يكون مدركاً أن مهمته هي أن يحصل من الدول على ما يريده من يمثلهم لا أن يحصل ممن يمثلهم على ما تريده الدول. 2- أن يكون مدركاً لما يفعل ومقتنعاً أن المسار الذي يسير فيه يحقق إرادة من يمثلهم. 3- أن يحترم من يمثلهم إلى درجة تشعره أن واجبه أن يشرح لهم كيف أن المسار الذي يسير فيه يحقق إرادتهم ويحاججهم بالمنطق بدل أن يتهمم بقلة الفهم.


الشيخ الذي يقف على باب رجل الأمن معتبراً نيل رضاه طريقاً إلزامياً ليستطيع ممارسة دعوته، والمثقف الذي يقف على باب اسرائيل معتبراً نيل رضاها طريقاً إلزامياً لتتمكن المنطقة من النهوض، والمعارض الذي يقف على باب روسيا معتبراً نيل رضاها طريقاً إلزامياً ليتمكن السوريون من العيش بسلام، يشتركون جميعاً في طريقة تفكير واحدة: لا بد من الانبطاح أمام المتغلب حتى تتمكن الشعوب من العيش. ليس النموذج الحضاري الأخلاقي الذي يمثله رجل الأمن واسرائيل وروسيا هو ما يدفع الشيخ والمثقف والمعارض إلى طلب رضا هذه الأطراف لكنها القوة التي تملكها وتستخدمها لسحق إرادة الشعوب. وبدلاً من أن يعلم الشيخ والمثقف والمعارض الشعوب كيف تعبر عن إرادتها وتطلق إمكانياتها وتنظم حركتها لتستطيع الوقوف في وجه هذه القوة وتعيش بكرامة اختاروا أن يعلموا الشعوب كيف تنبطح أمام هذه القوة لتعيش أي حياة. تعليم الشعوب كيف تعبر عن إرادتها وتطلق إمكانياتها وتنظم حركتها يحتاج إلى إيمان بهذه الشعوب وبأهليتها للعيش الحر الكريم وهذا ما يفتقده ذلك الشيخ والمثقف والمعارض، بل إن الكفر بالشعوب والإيمان بالقوة الغاشمة هو ما يشتركون به مع من يملك هذه القوة!


في الأمن والأمان إذا عرّفنا الأمن بأنه الوضع الذي يأمن فيه الإنسان بشكل مستدام على نفسه من الأذى المادي والمعنوي فما كنّا عليه قبل الثورة لم يكن أمناً. أولاً لأنه لم يكن قابلاً للاستدامة بدليل ما حصل في البلاد، وثانياً لأن الناس كانت لا تأمن فيه على نفسها من الأذى المعنوي فلا كرامة ولا حقوق ولا حريات مقابل أن تظل حياً وخارج السجن! تصل الشعوب إلى الأمن – بالتعريف السابق- عندما يتوافر فيها أمران: إحساس بالكرامة وإيمان باستحقاقها يجعلها ترفض الضيم مهما كان الثمن وهذا الإحساس والإيمان يصنع الثورات، ووعي يمكّن الناس من صناعة حكم راشد يحفظ أمنهم ممن يريد الاعتداء عليه وهو وعي لا يبنى تحت حكم طاغية من نوع الأسد ولا يأتي على شكل تحول مفاجئ وإنما تبنيه تجربة الحرية المؤلمة – ولو كانت حرية نسبية – وعبر مسار طويل. بناء على التعريف السابق للأمن ماذا عن الأمن اليوم في المنطقة الخاضعة لسيطرة النظام وتلك الخارجة عن سيطرته؟ كلا المنطقتين ليست آمنة اليوم ولكن أيهما فيه أمن أكثر وفيه وعد أكبر بمزيد من الأمن؟ إذا كان الأذى المادي يقاس بعدد الأبنية المدمرة وعدد القتلى والمعتقلين والمغتَصبين والمشبّحين وإذا كان الأذى المعنوي يقاس بهامش الحرية الذي يستطيع الناس أن يتحركوا فيه ، وإذا كان الوعد بمزيد من الأمن وبتطور الوعي اللازم لذلك يتناسب طرداً مع عدد الناس الذين يحملون الإحساس بالكرامة والإيمان باستحقاقها. فإن المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام فيها من الأمن ومن الوعد بمزيد من الأمن أكثر بكثير مما في المنطقة الخاضعة تحت سيطرته. بشرط أن نحافظ على إحساسنا بالكرامة وإيماننا باستحقاقها وأن نشمر عن ساعد الجد في بناء الوعي وتطوير المهارات التي نثبت فيها للعالم أننا شعب يستحق الحرية.


يخطر ببالك وأنت تشاهد تعامل الأمن مع متظاهري الأردن أنه لم يُبتلى شعب بما ابتلينا به من نظام طائفي حاقد يتلذذ بتفجير رؤوس المتظاهرين بالرصاص وبسلخ جلودهم في أقبية السجون. يخطر ببالك سؤال ربما لن يستطيع أحد الإجابة عليه كيف كان بإمكاننا كشعب اقتلاع ورم خبيث بهذا الحجم من الجسد السوري بألم أقل؟ ذلك الورم الذي كان يأخذنا إلى الموت بالمعنى الإنساني للحياة وليس بالمعنى الفيزيولوجي الحيواني حيث المتاح أكل وشرب وتناسل بلا كرامة ولا حقوق ولا حريات.


نحن نؤيد الثورة لأنها صرخة حرية وكرامة في وجه الظلم كانت وستظل كذلك حتى تصل إلى غايتها بإذن الله. نحن لا نؤيد ما كشفته من مشاكل في الوعي والأخلاق بل نعتقد أن كشفها لهذه المشاكل يسرع في تطهير المجتمع منها عكس الوضع الذي كان قبل الثورة والذي كان يرسخ هذه المشاكل بصمت قاتل كما يفعل السرطان. بالمقابل لا أفهم حجة الرمادي الذي يؤيد النظام (أقصد بالرمادي من يرى في النظام ضمانة الاستقرار وأن الثورة خربت البلد). هو بالتأكيد لا يؤيده بسبب قتله لمئات الألوف واعتقاله لمئات الألوف واغتصابه للحرائر وتشريده للملايين وتدميره لنصف البلاد. هو يقول إنه يؤيده لأنه ضمانة الأمن والاستقرار وهذا ما فشل النظام في تحقيقه طوال سبع سنين فماذا بقي من سبب للتأييد؟! إلا إذا كان الرمادي يرى الأمن والاستقرار أمنه واستقراره هو ولو فني نصف السوريين ويرى في الملايين الذين قُتلوا واعتُقلوا واغتُصبوا وشردّوا كائنات أخرى أقل شأناً من البشر