يوم خرجت من الصندوق
تعرفت منذ خمسة أعوام على كتاب اسمه (القيادة: خداع النفس - الخروج من الصندوق) الكتاب كله يدور حول فكرة واحدة بسيطة ولكنها فعالة جداً وهي أننا عندما نعامل الآخرين كأشياء أو كمصادر للتهديد نكون داخل الصندوق وعندما نعاملهم كبشر مثلنا لهم مشاعرهم واحتياجاتهم نكون خارج الصندوق. عندما نكون داخل الصندوق نرى فضائلنا ولا نرى عيوبنا، ونرى عيوب الآخرين ولا نرى فضائلهم، ونلعب دور الضحية، ونعتقد أن الآخرين هم الجناة دائماً وبالتالي لا نملك إلا لومهم وانتظار الحل منهم، وعندما نفعل ذلك فإننا نشجع الآخرين على القيام بالمثل أي على دخول الصندوق ولومنا وانتظار الحل منا وهكذا تصل علاقتنا مع الآخرين إلى طريق مسدود. أما عندما نخرج من الصندوق وننظر إلى الآخرين كبشر مثلنا لهم مشاعرهم واحتياجاتهم ونتحمل مسؤولية التواصل معهم لفهم هذه المشاعر والاحتياجات ومراعاتها فإننا سنشجعهم على القيام بالمثل أي على الخروج من الصندوق ومراعاة مشاعرنا واحتياجاتنا أيضاً وهكذا تتطور علاقتنا معهم ونصبح أكثر قدرة على التأثير فيهم. منذ أن قرأت ذلك الكتاب أدركت أن علاقتي مع بعض الناس كانت جيدة وكنت قادراً على التأثير فيهم لأنني كنت خارج الصندوق أي أنني كنت أعاملهم كبشر لهم مشاعرهم واحتياجاتهم وأن علاقتي مع آخرين كانت سلبية وكنت غير قادر على التأثير فيهم لأنني كنت داخل الصندوق أي أنني كنت أعاملهم كمجرد أشياء وتهديد لي من دون أي مراعاة لمشاعرهم واحتياجاتهم، منذ ذلك اليوم وأنا أعيش تحدي الخروج من الصندوق وأعلِّم الناس هذا التحدي في الدورات التي أقدمها وقد أصبحت لديّ الكثير من قصص النجاح في العلاقات يذكرها لي أولئك الذي خرجوا من الصندوق. منهم ذلك المدير الذي كان يوبخ أحد موظفيه لأنه يتأخر في المجيء إلى العمل وكان الموظف يتجهم كلما التقى به والعلاقة بينهما تزداد سوءاً وأداء الموظف يزداد تراجعاً، عندما أدرك المدير أنه ينظر إلى هذا الموظف كمشكلة وكتهديد للعمل من دون أي مراعاة لحاجاته طلب منه الحضور إلى مكتبه وسأله بهدوء عن سبب تأخره وكان السبب مشكلة يعاني منها ذلك منها ذلك الموظف استطاع المدير أن يساعده على تجاوزها ومنذ ذلك اليوم توقف التأخر واختفى التجهم وزال التوتر من العلاقة بينهما. ومن قصص الخروج من الصندوق قصة الأب الذي كان ينظر إلى سلوك ابنه السلبي على أنه تهديد لسلطته وسمعته ولذلك كان لا يملك إلا أن يزجره وينهره وكان كل منهما يزداد بعداً عن الآخر وكانت قدرة الأب على التأثير في ابنه شبه معدومة فلما خرج الأب من الصندوق وأصبح ينظر إلى ابنه على أنه إنسان له مشاعر واحتياجات تغيرت مشاعره تجاه ابنه وأصبح أكثر حرصاً على فهمه والإنصات إليه، أصبح أكثر فهماً لحاجة ابنه إلى الاستقلالية والشعور بالحرية، عندها أصبح قادراً على أن يتحدث معه بهدوء وينصحه ويرشده بحبٍّ بدلاً من الزجر والنهر والصراخ وكانت النتيجة أن قويت علاقة ذلك الأب مع ابنه وأصبح أكثر قدرة على التأثير فيه. ومن القصص التي ذكرها لي الآخرون عن تجربتهم في الخروج من الصندوق قصة ذلك الأستاذ الذي كان الطلاب يشاغبون في درسه وكان ينظر إليهم كتهديد له ولنجاح درسه وبالتالي كان لا يملك تجاههم إلا الصراخ والضرب والطرد من الصف فلما خرج من الصندوق وبدأ ينظر إليهم كبشر لهم مشاعر واحتياجات أدرك أن هؤلاء الطلاب يعبرون بشغبهم هذا عن مللهم من درسه وأن عليه أن يطور أسلوبه ليكون أكثر تشويقاً وهكذا فعل ولم يعد بحاجة إلى الشتم والضرب ليمنع الطلاب من الشغب في درسه ولديَّ قصص عن مديرين أصبحوا بخروجهم من الصندوق أكثر قدرة على التأثير في موظفيهم وعن أزواج صلحت علاقاتهم مع أزواجهم بعد أن كانت مليئة بالخصومة والتوتر. عندما أعرض فكرة العيش خارج الصندوق يسألني البعض ألا يعني ذلك أن الإنسان سيصبح ضعيفاً ومسايراً وسيشجع الآخرين على الاستقواء عليه وجوابي دائماً هو أننا عندما نراعي مشاعر وحاجات الآخرين فذلك لا يعني أن ننسى مشاعرنا وحاجاتنا، العيش خارج الصندوق لا يعني أن تنسى نفسك وتفكر بالآخرين وإنما يعني أن تفكر بنفسك وبالآخرين أيضاً، عندما يلمس الآخرون أن حرصنا على حاجاتهم ومشاعرهم لا يقل عن حرصنا على مشاعرنا وحاجاتنا عندها سيثقون بنا وينفتحون علينا ويبادلوننا هذا الحرص. إن العلاقات التي تقوم على مراعاة حاجات الآخرين ونسيان حاجات الذات هي علاقات استسلامية وهذا النوع من العلاقات ينتهي بالانهيار عادة، إن الذين يتنازلون عن حاجاتهم ومشاعرهم يفعلون ذلك حرصاً منهم على عدم إزعاج الآخرين واعتقاداً منهم بأن ذلك سيحافظ على علاقاتهم بالآخرين وهم لا يدركون أن ذلك سيؤدي إلى نتيجة معاكسة تماماً إذ أنهم سيشعرون مع الوقت بالظلم والغبن، هذا الشعور سيتصاعد تدريجياً إلى أن يصل إلى مرحلة الانفجار وعندها يهدم هؤلاء في لحظة واحدة كل ما اعتقدوا أنهم كانوا يبنونه بتنازلهم عن حقوقهم وحاجاتهم! إن الخروج من الصندوق يجنبنا الوصول إلى هذه النهاية الحزينة في علاقاتنا مع الآخرين لأنه مبني على احترام الذات واحترام الآخر بالقدر نفسه
إن الناس الذين يعيشون داخل الصندوق لا يستطيعون تغيير أنفسهم ولا يستطيعون تغيير الآخرين فالأستاذ الذي يعاني من الشغب في صفه سيلوم طلابه إذا كان داخل الصندوق ولن يسعى إلى تطوير أسلوبه في التدريس أما إذا كان خارج الصندوق فسيتحمل مسؤولية تطوير نفسه ليشد طلابه إليه وهكذا سيطور نفسه بشكل مستمر، كذلك المدير في علاقته مع موظفيه والأب في علاقته مع أبنائه والزوج في علاقته مع زوجته، كل واحد من هؤلاء إذا كان داخل الصندوق لن يستطيع تغيير نفسه ولن يستطيع التأثير في الآخرين أما إذا كان خارج الصندوق فسيتحمل مسؤولية فهم مشاعر الآخرين واحتياجاتهم وتلبيتها وهكذا ستكون مهاراته وإمكانياته في حالة تطور مستمر. الذين يعيشون خارج الصندوق لا يقولون يجب أن يتغير الناس و إنما يقولون ماذا يجب علينا أن نفعل لكي نؤثر في الناس لكي يغيروا أنفسهم، هكذا يفكر القادة وإذا استعرضنا الأشخاص القياديين في حياتنا أي الأشخاص الذين أثروا فينا سنجد أن هؤلاء يعيشون خارج الصندوق وأنهم لا يلومون أحداً بل يتحملون المسؤولية ويعلمون الآخرين تحمل المسؤولية. إن الذين هم داخل الصندوق يعيشون منفعلين ومتأثرين بالظروف والأشخاص من حولهم أما الذين هم خارج الصندوق فيعيشون فاعلين ومؤثرين في الظروف والأشخاص من حولهم. قد يظن البعض أن العيش خارج الصندوق أمر متعب وأن لوم الآخرين بدلاً من تحمل المسؤولية هو أمر مريح لكن العكس هو الصحيح فالذين يعيشون داخل الصندوق ويلعبون دور الضحية باستمرار هم الذين يتعبون ويفقدون القدرة على التأثير في الآخرين، الأب الذي يعيش داخل الصندوق في علاقته مع ابنه هو متعب دوماً بسبب خلافاته ومشاكله مع هذا الابن كذلك الزوج الذي يعيش داخل الصندوق في علاقته مع زوجته والأستاذ الذي يعيش داخل الصندوق في علاقته مع طلابه والمدير الذي يعيش داخل الصندوق في علاقته مع موظفيه كل هؤلاء حياتهم مليئة بالتوتر والقلق والشعور بفقدان السيطرة وبأنهم الضحية ويا لها من مشاعر سلبية. أما إذا كان هؤلاء يعيشون خارج الصندوق فسيشعرون بالسلام مع أنفسهم ومع الآخرين وبالقدرة على السيطرة على حياتهم وعلى التأثير في الآخرين ويا لها من مشاعر إيجابية. يطلب مني البعض أن أعلمهم كيف يخرجون الآخرين من الصندوق! فأقول لهم نحن لا نستطيع أن نخرج الآخرين من الصندوق لكننا نستطيع أن نخرج أنفسنا وعندما نفعل ذلك فإننا سنشجع الآخرين (في معظم الحالات) على الخروج من الصندوق. إن الذي يفكر بإخراج الآخرين من الصندوق هو بالتعريف ما زال داخل الصندوق لأنه مازال يتحرك بعقلية اللوم والنظر إلى الآخرين كأشياء يريد التحكم بها
أخي القارئ، أختي القارئة، فكرة الخروج من الصندوق فكرة بسيطة ولكنها قوية جداً وقد جربتها بنفسي وجربها الكثيرون وشعروا بالفرق الكبير الذي أحدثته في حياتهم وفي علاقاتهم مع الآخرين. الخروج من الصندوق يحتاج إلى خطوة واحدة فقط هي أن تبدأ التفكير بحاجات الآخرين العاطفية والمادية فلماذا لا تخطو هذه الخطوة الآن وتستثمر عشرة دقائق في ملء الجدول التالي وتحديد أهم ثلاثة أشخاص تريد أن تخرج من الصندوق في علاقتك معهم ثم تحديد حاجات هؤلاء وربما احتاج الأمر إلى أن تسألهم عن ذلك وتصغي إليهم بتعاطف