cover

الخوف والاستعمار و(الاستحمار)

إن أفكار الناس هي التي تصنع واقعهم، ولا يمكن تغيير الواقع إلا بتغيير أفكار الناس التي صنعت هذا الواقع. هذه سنة إلهية وقانون ثابت {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ(الرعد: 11)} ولقد سلط المفكر الإسلامي مالك بن نبي الضوء على هذا القانون فكانت كتاباته الشهيرة التي شرح فيها كيف أن أفكار الناس التي تجعلهم قابلين للاستعمار هي التي تأتي بالاستعمار، ثم جاء المفكر الإسلامي الشهيد علي شريعتي فشرح كيف أن أفكار الناس التي تجعلهم  قابلين (للاستحمار) هي التي تأتي بالفراعنة والمستبدين الذين (يستحمرون) الناس ويستخفون بعقولهم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (الزخرف: 54)}ولكي يكون الشعب عصيّاً على (الاستحمار) والاستخفاف بعقول أبنائه لا بد من الوعي وعلى وجه الخصوص لا بد من الوعي السياسي.  لقد أحدث التقدم في وسائل الإعلام تحسناً في الوعي السياسي عند المواطن السوري، لكن هذا التحسن لم يبلغ بعد في عمقه وانتشاره الدرجة الكافية لتغيير الواقع السياسي في سورية ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار الرصيد الهائل من الخوف الذي صنعه النظام في قلوب الناس، ذلك الخوف الذي يضغط على عقول الناس ويسطِّحُها فبدلاً من أن تنشغل بتفسير الظواهر وتعليلها ومناقشتها بشكل علمي منطقي تلجأ إلى (السجود) أمام هذه الظواهر وتفسيرها بشكل خرافي،  ولا أقصد هنا السجود الجسدي وإنما السجود العقلي والنفسي أي الخضوع والاستسلام التام ولعب دور الضحية والتخلي عن الإرادة والمبادرة والفعل الإنساني الخلاّق القادر على تغيير الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، هناك علاقة جدلية بين الخوف والتفكير فالإنسان الخائف المذعور لا يفكر جيداً وتوقف الإنسان عن التفكير يؤدي به إلى مزيد من الخوف، والعكس صحيح؛ أي إن تحرر الإنسان من الخوف يمكِّنه من التفكير  المنطقي الجيد والتفكير المنطقي يحميه من الخوف وهكذا،  إن علاقة الخوف بالتفكير معروفة منذ بدء الخليقة، فالإنسان الأول عندما شاهد البرق وخاف منه سجد له وفسره تفسيراً خرافياً، وعندما تعلم الإنسان أن البرق ما هو إلا تفريغ للشحنات الكهربائية الموجودة في الهواء أي عندما فهم السبب العلمي المنطقي لهذه الظاهرة  لم تعد تخيفه وتسبب له الذعر بل تعلم كيف يستثمرها ويستفيد منها

ما زال كثير من السوريين يعيشون هذه الحالة البدائية في تعاملهم مع الظواهر السياسية، إذ يعتقدون أن هناك مخططاً فظيعاً مدبراً لهم وأن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه هذا المخطط وأن هؤلاء المخطِّطون (اليهود، الماسونية، إسرائيل، أمريكا، وما إلى ذلك..)  هم الذين يأتون ويذهبون بالرؤساء والأنظمة السياسية في سورية بحيث يصب كل ذلك في خدمة إسرائيل. هذه فكرة شائعة بين كثير من السوريين وهي تشلُّهم تماماً وتحولهم إلى حالة سلبية مستعدة للقبول بأي شيء و(التلاؤم) مع أي وضع! وأنا لست هنا بصدد  الاعتراض على الجزء الأول من هذه الفكرة (وجود من يخطط ويتآمر) بل في كثير من الأحيان عندما يُقال لي إن أمريكا وإسرائيل أو إن جهة ما تخطط لكذا وكذا أجيب بأن هذا أمر طبيعي فكل إنسان من حقه أن يخطط لما يعتقد أن فيه مصلحةً لشعبه وأمته وجماعته ولو كنت مكان بوش أو أولمرت أو فلان وأفكر بالطريقة التي يفكرون بها لفعلت ما فعلوه تماماً! السؤال هنا: ماذا نحن فاعلون لإحباط هذه المخططات والمؤامرات؟ وما هي مصلحتنا كشعب؟ وكيف نسعى إلى تحقيق هذه المصلحة؟ عندما تطرح هذه الأسئلة على الناس تلمس في داخل الكثيرين منهم افتراضاً خفياً مفاده (نحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً) وهم يقدمون لك الكثير من الحجج التي تدعم هذا الافتراض وكل هذه الحجج تتحدث عن الفشل الذي مُني به بعض  من فكروا بالتغيير، وهنا يظهر تشوه الخريطة الإدراكية لدى هؤلاء إذ إنهم يقرءون العالم والتاريخ بعقلية انهزامية تنتقي كل ما يؤكد وجهة نظرهم في (أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً) وتتجاوز عشرات الأمثلة المضيئة التي تثبت أن الشعوب قادرة على التحرر والنهوض والإمساك بزمام أمرها والتخلص من المحتلين الذين يستعمرونها والطغاة الذين (يستحمرونها

لقد عاش الشعب السوري أكثر من أربعين عاماً في ظل نظام شمولي وصائي لا يحترم عقول الناس ويستخدم العنف والتخوين بدلاً من الحجة والمنطق في مواجهة الرأي الآخر  مما أوصل الشعب إلى حالة مُزريةٍ من الخوف والجهل والسلبية. إنني أدعو أصحاب العقل والقلم وكل من أوتي نصيباً من العلم والإطلاع أن يساهم في تحرير الشعب السوري من الخوف والجهل وذلك بنشر الوعي وتبيين الحقائق وتقديم المعلومات الصحيحة وتعريف الناس بالسنن الإلهية الثابتة التي تحكم نهوض  المجتمعات وانحطاطها، ولنعلم أننا في سباق مع الزمن فمستقبل هذه المنطقة ومستقبل كرامة الإنسان وحرَّيتِه فيها وحمايتها من مخططات أعدائها وحقن دماء شعوبها وإنقاذها من التفتيت ونهوضها وقيامها بدورها الحضاري كلُّ ذلك مرتبط بشكل مباشر ووثيق بمدى وعي الناس فيها ونظافة عقولهم من الأفكار التي تجعلهم قابلين للاستعمار أو (الاستحمار)

2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share