الذبيح والجزار
إن سلوك الإنسان هو الذي يحدد النتائج التي يصل إليها وسلوك الإنسان تحدده التصورات التي يحملها في ذهنه. عندما يحمل الإنسان في ذهنه تصورات خاطئة فإنه يسلك سلوكاً خاطئاً يؤدي به إلى نتائج خاطئة والعكس صحيح، يمكننا أن نضرب تصور الإنسان عن الأمراض مثالاً على ذلك ففي سالف الزمان كان يُظن أن كل الأمراض التي تصيب الإنسان سببها الدم الفاسد (التصور) وبالتالي كانت تعالج كلها بالفصادة (السلوك) وقد أدى ذلك إلى موت كثير من الناس بسبب فقد كميات كبيرة من الدم (النتيجة). عندما تطور العلم أصبح الإنسان يعرف السبب الحقيقي لكثير من الأمراض، أصبح يعرف أنه إذا أصيب بالتهاب في اللوزات فإن السبب هو الجراثيم (التصور) فيتناول مضاداً حيوياً (السلوك) ويشفى بإذن الله( النتيجة). علاقة أفكار الناس بسلوكهم وبالنتائج التي يصلون إليها تبدو واضحة في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي السيئ الذي تعيشه المجتمعات المحكومة بالأنظمة الاستبدادية. هذا الواقع السيئ الذي يتذمر منه أفراد هذه المجتمعات ما هو إلا (نتيجة ) لـِ ( سلوكهم) المتمثِّل بالإحجام عن المطالبة بحقوقهم الذي هو نتيجة لـِ (تصوراتهم) من أمثال "موطالع بإيدنا شيء" و " ياللي بتعرفو أحسن من ياللي مابتعرفو"" و " ياللي بيتجوز أمي بيصير عمي.." و"ما في أمل.." و"كل شيء مرسوم من قبل الدول العظمى أو اليهود أو الصهيونية أو الماسونية .." وغير ذلك من المبررات التي تتفاوت في بلاغتها وطريقة سبكها بحسب مصدرها ولكنها سواء صدرت من بائع خضار بسيط أو من أستاذ جامعي فكلها تؤدي إلى (سلوك ) واحد وهو السلبية والسكوت على الظلم وعدم المطالبة بالحقوق والانكفاء عن المشاركة السياسية وبالتالي إلى (نتيجة ) واحدة وهي احتكار القرار السياسي ومقدرات البلاد ومصيرها في يد فئة قليلة لا تهمها إلا مصالحها مستغلة صمت الأكثرية وجبنها وتخليها عن حقوقها. عندما ننظر في الدول التي لا يتجرأ فيها الحكام على احتكار القرار وفرض الوصاية على شعوبهم نجد أن (تصورات) الناس في تلك الدول قائمة على أن المشاركة السياسية والمطالبة بالحقوق وعدم السكوت على الظلم والتجاوزات هي الضمانة التي تحمي المجتمع من تسلط الظالمين والسارقين والفاسدين، لذلك ترتفع الأصوات في تلك المجتمعات عالياً (السلوك) عندما يحدث تجاوز للقانون ولو كان المتجاوز في أعلى المناصب في هرم السلطة، ترتفع الأصوات عالياً سواء على المستوى الشعبي أو الإعلامي أو الرسمي أو على مستوى المفكرين والمثقفين والفنانين، لذلك يسود القانون في تلك الدول ويُحترم الإنسان وتتحقق العدالة وتُبنى الأوطان (النتيجة)وكمثال على ذلك، دفع وزير داخلية بريطاني في أحد الأيام منصبه ثمناً لأنه سهَّل إخراج جواز سفر لأحد معارفه بشكل غير قانوني
قد يظن البعض أن الواقع السيئ الذي تعيشه المجتمعات الخاضعة للاستبداد ليس نتيجة لـِ (تصورات ) أفراد هذه المجتمعات وإنما للبطش الذي يتعرضون له وهذا أيضاً من (التصورات) الخاطئة فالتاريخ مليء بأمثلة عن شعوب تعرضت لأقسى أنواع البطش والتنكيل فثارت وتحركت وطالبت بحقوقها وانتصرت. إن البطش لا يمنع الإنسان من تحديه ومقاومته والانتصار عليه بل خنوع الإنسان لهذا البطش وصمته ورضاه به هو الذي يؤسس لدول الخوف والصمت حيث تُساق البلاد والعباد إلى الذبح على مذابح أخطاء الطغاة ورعونتهم وعدم فهمهم للعالم الذي يعيشون فيه وحيث لا يُطلب من الذبيح أن يمتنع عن قول الـ(آه) وحسب بل يُطلب منه أن يهتف بحياة ذابحيه وأن يعبر عن إعجابه ببطولاتهم حتى تقطر آخر قطرة من دمه ويخمد آخر نفس من أنفاسه!! فعلها نيرون في سالف الزمان وفعلها صدام بالأمس وفعلها الطغاة منذ بدء الخليقة وسيستمرون في فعلها حتى قيام الساعة وليس على الذبيح أن يلوم الجزار فالجزار خُلق ليذبح، عليه أن يلوم نفسه لأنه اختار أن يكون خروفاً! إن أجل الإنسان مكتوب ولا يستطيع أحد أن يختار ساعة موته، لكنه يستطيع أن يختار الطريقة التي يعيش بها والطريقة التي يموت بها فإما أن يختار عيش الخنوع والذل حتى يأتي الوقت الذي يُنحر فيه بسبب قصر نظر الطغاة ومكابرتهم ومغامراتهم فيقضي كالخروف متخبطاً في دمه بين قدمي الجزار، أو أن يختار العيش منارةً تهدي الأمة إلى طرق الصدق والشجاعة والعزة والشرف فإذا حانت منيته كان مثل عبد الله بن الزبير الذي صلبه جلادوه فظلّت هامته مرفوعةً حتى في لحظة الاحتضار
2007 - الدكتور ياسر تيسير العيتي