cover

السوريون يستحقون التضحية ويستحقون الحرية

قال لي صديق محب كلاماً معناه: "لماذا تعرض نفسك للخطر بكتابة هذه المقالات، الناس لا يستحقون أن تضحي من أجلهم، إنهم منافقون خاضعون للظلم مستسلمون له راضون به" وضرب لي عدة أمثلة على نفاق البعض وتخاذلهم. ليست هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذا الكلام وعادة ما يكون جوابي "إذا صدر منطق مغلوط أو تصرف خاطئ من هذا الشخص أو ذاك نتيجة لقلة في الوعي أو نقص في المعلومات أو ضعف في النفس فهذا لا يعني أن الناس لا يستحقون التضحية وإنما يعني أن هذا الشخص بحاجة إلى من يحاوره ويبين له الحقائق وينفخ فيه روح العزة والكرامة"

مشكلة الأنظمة الشمولية هي أنها لا تؤمن بشعوبها ولا تؤمن بقدرة هذه الشعوب على الاختيار الصحيح لذلك تفرض الوصاية عليها ومع الوقت ونتيجة لتعطيل الحياة السياسية  تبدأ الشعوب بفقدان ثقتها بنفسها وبأهليتها للعيش الحر الكريم. إن الناس يحملون في أنفسهم الاستعداد لحمل الخير والفضيلة والعزة والكرامة ويحملون أيضاً الاستعداد لتقبل الشر والرذيلة والذل والهوان والذي يحدد مسار مجتمع ما هو نظرة قادته إليه والطريقة التي يعاملونه بها. هناك تجربة شهيرة أُجريت على مجموعة من الطلاب حيث أُخبر مجموعة من الأساتذة بأن هؤلاء الطلاب أذكياء ومؤدبون ثم أعطى الأساتذة الدرس على هذا الأساس وعندما انتهوا من إلقاء الدرس سُئلوا كيف وجدتم الطلاب فقالوا لقد كانوا فعلاً أذكياء ومؤدبين. ثم أُخبرت مجموعة أخرى من الأساتذة بأن هؤلاء الطلاب أغبياء وغير مؤدبين ثم أعطوا الدرس على هذا الأساس وعندما انتهوا سُئلوا كيف وجدتم الطلاب فقالوا لقد كانوا فعلاً أغبياء وغير مؤدبين! الطلاب لم يتغيروا وإنما نظرة أساتذتهم إليهم هي التي تغيرت وبالتالي تغيرت طريقة تعامل الأساتذة مع الطلاب وبالتالي تغيرت استجابة الطلاب.. الله خلق الناس متساويين ولم يميز شعباً على آخر لكن الأنظمة الشمولية تنظر إلى شعوبها نظرة دونيّة فيها الكثير من الاستخفاف والاحتقار وتعاملها على أساس هذه النظرة، تعاملها معاملةً تضعف فيها كل استعداد للاستقامة والنهوض وتغذي كلَّ استعداد للانحراف والانحطاط! إن الله المتحلي بصفات الكمال خلق الإنسان في أحسن تقويم { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } (التين، 4) خلقه حراً كريماً قادراً وما تفعله الأنظمة الشمولية هو أنها تزوِّر الصورة الحقيقية التي خلق الله الناس عليها، تفعل ذلك من خلال القوانين التي تسنّها والتخويف الذي تمارسه والإعلام الذي تحتكره وعملية الإذلال المنهجية التي تطبقها على شعوبها. عندما ينظر الناس الذين يعيشون في ظل أنظمة شمولية إلى أنفسهم في المرآة يرون أشخاصاً خائفين عاجزين منافقين لأن هذه هي الصورة التي أقنعتهم بها تلك الأنظمة. من أجل هزَّ هذه الصورة وتغييرها، لا بد من رجال يذكِّرون الناس - بالقدوة أولاً من خلال مواقفهم الشجاعة وبالحجة والمنطق ثانياً - بأن الله لا يخلق الناس خائفين عاجزين منافقين وإنما هي حالة تطرأ عليهم ويستطيعون تجاوزها بما أودع الله فيهم من قوة وإرادة ونخوة وشهامة. إن ألف قطعة نقدية مزورة يكفي لكشفها قطعة حقيقية واحدة وكذلك تفعل كلمات هؤلاء الرجال فهي تفضح الزيف الذي تروج له الأنظمة الشمولية وتذكِّر الناس بحقيقتهم التي خلقهم الله عليها. إن أفكار هؤلاء الرجال وكلماتهم لا تُسجن بسجنهم ولا تموت بقتلهم بل على العكس من ذلك تماماً فهي تصبح بسجن أصحابها أو قتلهم أكثر انتشاراً وأشد تأثيراً وكما قال أحد المجاهدين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم وأفكارهم (إن كلماتنا تظل عرائس من شمع فإذا متنا في سبيلها انتفضت ودبت فيها الحياة

بعض الناس بلغ بهم ضعف الثقة بأنفسهم ومجتمعهم إلى حد الاعتقاد بأنه يستحيل أن يخرج من بين عشرين مليون شخص بضعة أشخاص يقولون كلمة الحق فإذا خرج مثل هؤلاء فلا بد أنهم أخذوا الضوء الأخضر من السلطة أو أن جهة خارجية تحميهم!! إن هؤلاء يجب أن يزيدوننا إصراراً على المضي في منهج الكلمة الحرة التي توقظ الناس وتذكرهم بحقيقتهم وتدفعهم إلى إعادة اكتشاف أنفسهم

نعم، إن السوريين يستحقون كل الحب وكل التضحية وكل الحرية، حتى أولئك الذين يتهموننا بالخيانة واللاوطنية يستحقون ذلك! إن دور الكلمة الحرة الني تحطم دولة الخوف التي بناها القمع في قلوب الناس هو دور أساسي لا يجوز أن يخلو المجتمع ممن يقوم به، وهو يكمّل أدوار الآخرين وأنا  أحترم كل من يساهم في بناء المجتمع السوري مهما كان موقعه وأفهم أن كثيراً من الصامتين لا يبوحون بما نبوح به  -مع موافقتهم التامة عليه -  حماية للدور الإيجابي الذي يؤدونه، وهذا هو شأن المجتمعات الحيَّة فهي تعبر عن حيويتها بشتى الأشكال؛ تارة بنساء ورجال يكسرون بكلماتهم حاجز الخوف والصمت، وتارة أخرى بنساء ورجال يعملون بصمت على بناء الإنسان من خلال مهنهم ومؤسساتهم الاقتصادية والتربوية والفكرية وغيرها. هذه أدوار يكمّل بعضها بعضاً ولا شك أنها ستؤدي في النهاية إلى تمكين المجتمع السوري ليخرج إلى فضاء الحرية وليصنع مستقبلاً كريماً مزدهراً يليق به وبإمكانياته

2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share