العبودية المختارة
لم تكن العبودية في يوم من الأيام قدراً لا مفر منه، إنها خيار تختاره الشعوب المستعبدة بكل طواعية ثم تتخلى عنه عندما يهيئ الله لها مصلحين ومفكرين وقادة أحرار يأخذون بيدها في طريق الحرية والكرامة. سأورد فيما يلي مقاطع (مع بعض التصرف) من كتاب العبودية المختارة (من منشورات دار الآفاق والأنفس) لأتين دي لابويسيه وهو مفكر فرنسي عاش في القرن السادس عشر ميلادي حين كانت أوربة ترسف في أغلال الاستبداد، يومها لم تكن في أوربة دساتير تحكم وبرلمانات تُنتخب وشعوب تراقب وتحاسب بل كان عشرات الملايين من الناس يعيشون تحت رحمة زمرة من الملوك والأمراء الفاسدين الذين لم يكن هناك دستور أو قانون يردعهم بل كانوا يستبيحون البلاد والعباد ويفعلون بهم ما يشاءون، يومها كانت تحيط بكل أمير أو ملك مستبد مجموعة من المرتزقة المنتفعين ومن (رجال الدين) الذين كانت مهمتهم تطويع المجتمع فكرياً ونفسياً حتى يألف الخنوع ويرضى بالاستبداد. لقد كانت كتابات أتين دي لابويسيه بداية تلك الشرارات الفكرية التي أشعلت في أوربة ثورة عقلية تلتها ثورات شعبية أطاحت بالمستبدين وذهبت بهم إلى مزابل التاريخ. الفكرة الأساسية في كتاب العبودية المختارة هي أن الناس يصنعون عبوديتهم بأنفسهم ويصنعون حريتهم بأنفسهم { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران: 165
يبدأ دي لابويسيه كتابه بالسؤال التالي
" ما هذا يا ربي؟ أي تعاسة هذه وأي رذيلة؟ أن نرى عدداً لا حصر له من الناس يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة من شخص واحد يستبد يهم لا هو هرقل ولا شمشون بل هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثاً، مخنَّث لم يألف وجهه غبار المعارك ولم تمسك يده بقبضة سيف!؟ "
ثم يشرح كيف أن الطاغية شخص مهزوم لا حاجة لمحاربته، كل ما يحتاج إليه الأمر أن يتوقف الناس عن طاعته وعندها سيسقط هو ومن حوله كورقة يابسة
"إن الطاغية لا يحتاج إلى محاربته وهزيمته فهو مهزوم خلقة، بل يكفي أن لا يستكين البلد لاستعباده، ولا يحتاج الأمر إلى انتزاع شيء منه بل يكفي الامتناع عن عطائه. الشعوب إذن هي التي تترك القيود تكبلها وهي التي تقهر نفسها بنفسها. إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم وكلما وجدت حطباً زادت اشتعالاً ثم تخبو وحدها دون أن نصب الماء عليها، يكفي أن لا نلقي إليها بالحطب، كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا وكلما سكتنا على ظلمهم ازدادوا جرأة واستقووا علينا فإن تمردنا ورجعنا عن طاعتهم صاروا بلا قوة عرايا مكسورين كالشجرة التي عدمت جذورها الماء والغذاء فجفت وذوت"
ثم يتحدث دي لابويسيه كيف أن الناس عندما يفقدون الحرية عهوداً طويلة تضعف الشهامة في قلوبهم
من المحقق إذن أن الحرية تزول بزوالها الشهامة. فالقوم التابعون لا همة لهم ولا عزيمة ولا يحبون الذهاب إلى الخطر. إنهم لا يشعرون بلهب الحرية يحترق في قلوبهم، هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري بالمخاطر ويود لو اكتسب بروعة موته الشرف والمجد. إن الأحرار يضحون من أجل الجماعة وينتظرون جميعاً نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار، أما المستعبدون فتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال وهذا الأمر يعلمه الطغاة جيداً فهم ما إن يروا الناس في هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضي فيه حتى يزيدوا (استنعاجاً
ولكن كيف يزيد الطاغية (استنعاج) الناس أي استعدادهم ليعيشوا كالنعاج؟ الوصفة بسيطة: يؤمن لهم الخبز ليظلوا على قيد الحياة ثم يغمسهم في اللهو والملذات والرقص والدبك والغناء. يقول دي لابويسيه
" إن الطغاة يسعون إلى تخنيث الشعوب وغمسها بالملذات فيخترعون المسارح والألعاب والمساخر والمشاهد حتى تنام الرعية تحت النير وتتسلى بلذة باطلة تخطف أبصارها، إن الطاغية قد يجود أحياناً على الرعية فيهتفون: عاش الملك! متناسين أنه ألقى إليهم بفتات ما سرقه منهم
لكن الأسوأ من الطغاة هم الطغاة الصغار الذين يحيطون بهم، إنهم مجموعة من المرتزقة من التجار والصناعيين و(المتثاقفين) والفنانين والمهرجين و(رجال الدين) الذين يحومون حول الطاغية كالذباب الذي يحوم حول القمامة. يقول دي لابويسيه
"ما أن يعلن ملك استبداده بالحكم إلا التف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها، أعني بذلك أولئك الذين تدفعهم الأنانية الشديدة والطمع الحارق فيلتفون حول الطاغية ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير. هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة يوزعون الأدوار فيما بينهم: فريق يستكشف البلد، وفريق يلاحق المسافرين، وفريق يراقب الطريق وفريق يختبئ، وفريق يقتل، وفريق يسلب. ولكنهم وإن تعددت المراتب بينهم وكان بعضهم توابع وبعضهم رؤساء إلا أنه من أحد منهم إلا ويخرج بكسب ما"
إن الطغاة يملكون من القوة المادية ما يكفي لإبادة شعوبهم بأسرها ليس مرة واحدة وإنما مرات ومرات (وهؤلاء ليس لديهم أي رادع أخلاقي يمنعهم من ذلك للحفاظ على كراسيهم) ومع ذلك هم يُهزمون في نهاية المطاف لأنهم لا يملكون الحق الذي يملكه المطالبون بالحرية المتمردون على الاستبداد. يوم كان بلال الحبشي ملقى في مكة تحت العذاب الشديد لم يكن يملك إلا كلمة (أحد..أحد) كلمة واحدة قالها في وجه طغاة مكة الذين كانوا يملكون القوة، ثم انتصرت الكلمة وهُزم الطغاة
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} الرعد: 17. صدق الله العظيم
2007 - الدكتور ياسر تيسير العيتي