cover

القائد العظيم هو من يخلي مكان القيادة لغيره طوعاً

أدق تعريف قرأته للقيادة هي أنها "إشعار الناس بقيمتهم وإمكانياتهم إلى درجة تجعلهم يرون هذه القيمة والإمكانيات في أنفسهم" وأدقُّ تعريف قرأته للقائد العظيم هو أنه "ذلك الشخص الذي يبني مؤسسة تطلق الطاقات الكامنة عند الأشخاص الذين يعملون فيها، مؤسسة تعمل بعد رحيل القائد عنها مثلما كانت تعمل في أثناء وجوده". لقد ابتُليت شعوب منطقتنا منذ عشرات السنين بقادة مهمتهم "إشعار الناس بانعدام قيمتهم وإمكانياتهم إلى درجة تجعلهم يكفرون بوجود هذه القيمة والإمكانيات في أنفسهم!" ولقد بنى هؤلاء القادة دولاً عبارة عن "ممالك خوف تقتل الطاقات الكامنة عند المواطنين القاطنين فيها، ممالك خوف معرضة للانهيار في أية لحظة ولا يبقيها متماسكة إلا القمع والرعب !" والنتيجة منطقة تعج بالجهل والفقر والتفكك والصراعات وتأتي في مقدمة دول العالم في الاستبداد والفساد وانتهاك حقوق الإنسان

مع معارضتي الشديدة لسياسات الغرب الظالمة تجاه العرب والمسلمين لا يمكنني ألا أنظر بإعجاب إلى شيراك وهو يغادر الإليزيه بكل تواضع مخلياً مكانه لساركوزي رئيساً جديداً لفرنسا، ولا يمكنني ألا أنظر بإعجاب إلى طوني بلير وهو يلقي خطابه الأخير في حزبه ثم يختم قائلاً "والآن أقدم لكم براون قائد الحزب الجديد.." ثم يستدير ويغادر خشبة المسرح بكل هدوء وثقة! لماذا لا نرى هذه المشاهد في منطقتنا العربية!؟ عندما تحتفل الدول الغربية بأعيادها الوطنية يقف رئيس الدولة وبجانبه أربعة أو خمسة من الرؤساء السابقين، أما في دولنا فلا نجد إلا الرئيس الأوحد الذي تهتف الملايين تحت قدميه "بالروح بالدم نفديك يا.."؟ إن مشكلة تأليه الزعيم في منطقتنا لا تعاني منها الأنظمة الحاكمة وحسب وإنما تعاني منها المعارضة أيضاً فكم من رئيس حزب أو جماعة معارضة مازال (القائد الملهم) منذ عشرات السنين

إن التجدد هو سنة الحياة، ولقد خلق الله الناس مختلفين متنوعين لحكمة عظيمة وهي رفد الحياة على نحو دائم بشخصيات جديدة وأفكار جديدة ودماء جديدة وإن اختصار الأمة كلها في رجل واحد هو خنق لهذه الأمة وتدمير لطاقاتها

القائد العظيم هو ذلك الشخص الذي يعمل منذ اللحظة الأولى لتسلمه القيادة على بناء نظام يخرِّج القادة وليس نظاماً يقتل القادة! القائد العظيم لا يضيره أن يخلي مكانه بعد خمس سنوات أو عشر سنوات إلى قائد غيره لأنه يعلم أن التاريخ لا ينتهي عنده وأن الأمة التي أنجبته يمكن أن تنجب العشرات من أمثاله. القائد العظيم هو إنسان متواضع يعتبر نفسه حلقة في سلسلة أو لبنة في جدار ولا يعتبر نفسه السلسة كلها أو الجدار كله! لقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أول من أرسى مفهوم القيادة هذا عندما شبه نفسه نسبة إلى الأنبياء الذين سبقوه بأنهم كمن بنى جداراً ثم جاء هو ووضع اللبنة التي أكملت الجدار ولم يقل أنه بنى الجدار كله _ مع أنه رسول الله وخاتم الأنبياء ـ كما يفعل اليوم قادة ينسبون أمجاد الأمة كلها إلى أنفسهم وكأن تاريخ الأمة قد بدأ بهم وكأن الأمة من دونهم كانت ستصبح هباء منثوراً. إن كل ما يقوله هؤلاء عن إيمانهم بشعوبهم لا قيمة له لأن أفعالهم تخالف أقوالهم فمن ينصب نفسه قائداً إلى الأبد إنما يقول لشعبه (بلسان حاله وهو أبلغ من لسان المقال): أيها الشعب أنت أعقم من أن تلد قائداً غيري وأعجز من أن تخرج قائداً غيري، وفي ذلك قمة الاستخفاف بالشعب وقمة الاحتقار له

إن استعداد الناس لقبول هذه القيادات الفارغة التي تختصر الأمة كلها في أشخاصها يلعب دوراً كبيراً في التمكين لهذه القيادات وتركها تعربد فوق شرف الأمة وكرامتها عشرات السنين ثم تُسلمها إلى الهلاك والدمار. لا يمكن أن يحدث أي نهوض حضاري في منطقتنا ما دام هناك قبول لدى الكثيرين بفكرة (القائد المخلص) و(الزعيم الأوحد)، هذا مرض فكري على مفكري الأمة ومثقفيها وعلمائها وقادتها الحقيقيين أن يتكاتفوا لتخليص الأمة منه.  لقد آن الأوان لبناء ثقافة جديدة تجعل الناس يقبلون كل قائد يعبِّد الطريق أمام شعبه ليحقق أحلامه في الحرية والكرامة والازدهار ثم يسلم زمام الأمور لغيره بعد خمس سنوات أو عشر سنوات كما يحدث في معظم دول العالم ويرفضون ذلك (القائد) الذي ينصب نفسه وثناً أبدياً سرمدياً تتحطم عند قدميه كل الأحلام، بل تتحطم شعوب ودول بأسرها

2007 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share