بل الإنسان على نفسه بصيرة رحلة العودة إلى الذات
اطلعت مؤخراً على كتاب لعالم النفس الأمريكي دان سيغيل نشر العام الماضي بعنوان mindsight وقد ترجمتها إلى البصيرة وسأشرح سبب اختياري لهذه الترجمة في ثنايا هذه المقالة. الجديد في هذا الكتاب أنه يستند إلى آخر ما توصلت إليه أبحاث علم الأعصاب حول الطريقة التي يعمل بها دماغ الإنسان والتي أثبتت أن دماغ الإنسان في حالة تشكل وتبدل دائم لا تنتهي إلا بوفاته والمثير في الموضوع أن الإنسان يستطيع بشكل إرادي وواعٍ أن يتدخل في عملية التشكل هذه، ويستند الكاتب إلى قصص عملية واجهها في أثناء علاجه لمرضاه حيث استطاع أن يحدث تبدلاً جذرياً في حياتهم من خلال تمرينات بسيطة نمّت عندهم مهارة البصيرة التي يدور حولها الكتاب. يبدأ الكاتب بشرح مبسط لأقسام دماغ الإنسان فهناك قشرة الدماغ مكان الوعي والإدراك والإرادة والاختيار الواعي، يقع تحتها مباشرة الجهاز اللمبي مكان العواطف والانفعالات والرغبات، وتحت الجهاز اللمبي يقع جذع الدماغ الذي ينظم عمل الأجهزة الأساسية في الجسم كأجهزة التنفس والدوران والهضم وفيه مركز إطلاق الأدرينالين في الجسم في حالات الخوف أو الغضب أو الانفعال. هذه الأقسام الثلاثة موجودة عند كل الحيوانات ولكن قشرة الدماغ (المسؤولة عن الإدراك والاختيار الواعي) هي الأكثر نمواً عند الإنسان وهذا ما يمنح الإنسان ميزة اختيار أفعاله وعدم الانقياد وراء كل نزواته. بين هذه الأقسام الثلاث توجد دارات عصبية متشابكة تصل فيما بينها وتنظم عمل الدماغ كمنظومة واحدة فأنت عندما ترى قطعة حلوى وتدرك بعقلك الواعي أنها قطعة حلوى تنقل هذه الدارات تلك المعلومة إلى الجهاز اللمبي فتتحرك فيك الرغبة في الطعام حيث يقوم الجهاز اللمبي بدوره بتفعيل المراكز المسؤولة عن الجهاز الهضمي في جذع الدماغ فتصدر الأوامر إلى الغدد اللعابية لإفراز المزيد من اللعاب استعداداً للأكل. لكن هذا لا يعني أن رؤية قطعة حلوى سيؤدي بالإنسان إلى أكلها مباشرة فقد يكون هذا الإنسان مصاباً بالسكري ويعلم أن أكل الحلوى يضره، عندها ستخطر بباله كل الأضرار التي ستصيبه إذا أكل هذه القطعة (مكان استحضار الأفكار والصور الخاصة بالأضرار هو قشرة الدماغ) وستتتفعل دارات أخرى بين قشرة الدماغ والجهاز اللمبي تحرك فيه مشاعر الخوف من المرض والرغبة في السلامة والتمتع بالصحة وهكذا تتغلب هذه المشاعر على الرغبة في الطعام فتأتي الاستجابة السلوكية للمشاعر الأقوى ويعرض الإنسان عن أكل الحلوى. ولكن ما الذي يحدث في أدمغتنا عندما نمر بتجربة من النوع السابق؟ يقول الكاتب أن الأبحاث أثبتت أن تفعيل أي دارة في دماغ الإنسان (سواء تلك الدارة التي أدت إلى الرغبة في أكل الحلوى أو الإعراض عن أكل الحلوى) يؤدي إلى أربعة تغييرات بنيوية في تركيبة هذه الدارة: 1- يزداد عدد التشابكات العصبية فيها، 2- تزداد فعالية التشابكات الموجودة أصلاً، 3- تزداد سماكة غلاف المحاور العصبية مما يؤدي إلى ازدياد سرعة انتقال السيالة العصبية، 4- يزداد عدد الخلايا العصبية الموجودة في الدارة (هذا التغير بالذات كما يقول الكاتب ما زال بحاجة إلى مزيد من الأبحاث لتأكيد حدوثه ولكن نتائج الأبحاث حتى الآن ترجح حدوثه). طبعاً إن الإعراض عن أكل الحلوى مرة واحدة لا يؤدي إلى عدم الرغبة في أكلها عندما يواجه هذا الشخص ظرفاً مشابهاً في المرة القادمة ولكن هذه الرغبة ستتناقص تدريجياً كلما نجح الشخص في عدم الاستجابة لها لأن الدارات المسؤولة عن عدم الاستجابة تتعزز تدريجياً لتصبح أقوى من الدارات المسؤولة عن الاستجابة. إن قابلية بنية الدماغ للتغير تصاحب الإنسان طوال حياته ويذكر الكاتب قصة مريض في الرابعة والتسعين من عمره أصيبت زوجته بمرض كاد أن يؤدي بحياتها، فأصيب بعد هذه الحادثة بالاكتئاب وتبين أن سبب اكتئابه هو عدم قدرته على مواجهة مشاعر الخوف من فقد زوجته، فبدلاً من تسمية هذه المشاعر وتقبلها والتحدث عنها، كان يتجاهلها ويهرب منها، وانتقل هذا الهرب من مواجهة الذات إلى هرب من مواجهة الآخرين حتى من زوجته التي يحبها ويخشى فقدها مما أدى به إلى اعتزال الآخرين والدخول في حالة اكتئاب، وقد وجد الكاتب (الذي كان يعالج المريض) أن سبب عدم قدرة المريض على مواجهة مشاعره وتقبلها هي تربيته حيث نشأ في أسرة صارمة لا مجال فيها للحديث عن المشاعر، وطبيعة عمله حيث كان محامياً ينصب تركيزه على التحليل والتفكير المنطقي بعيداً عن المشاعر، كل ذلك أدى إلى (ضمور) تلك الدارات التي تصل بين قشرة الدماغ والجهاز اللمبي والتي تجعل الإنسان قادراً على تسمية مشاعره السلبية ومعرفة الأسباب الكامنة وراءها والقيام بما يمكن القيام به للتخفيف منها، شرح الكاتب للمريض سبب اكتئابه وعلمه تمارين الاسترخاء والتنفس البطيء التي يراقب فيها الإنسان أفكاره ومشاعره دون أن يحكم عليها، علمه أن يكتب عن مشاعره ويتحدث عنها إليه (أي إلى المعالج) أولاً ثم إلى زوجته ومن يثق به ثانياً، وبعد سنة من هذه التمارين البسيطة وجلسات العلاج التي أتاح فيها الكاتب للمريض التحدث عن مشاعره تخلص من حالة الاكتئاب وتغيرت علاقته جذرياً بزوجته وأصدقائه نحو الانفتاح والتفاعل. المغزى من هذه القصة هو أن كبر سن الرجل لم يمنعه من القدرة على إحداث التغيير في الطريقة التي يعمل بها دماغه والتي رافقها بالتأكيد تغيير في بنية هذا الدماغ
إن قدرة الإنسان على أن ينفصل عن نفسه فينتقل من وضعية المنفعل بأفكاره ومشاعره إلى وضعية المراقب والمدرك لها ثم القادر على التحكم فيها، أو القدرة على التفكير في عملية التفكير ذاتها وما يرافقها من مشاعر وسلوكيات هي ما يسميه الكاتب mindsight
وقد اخترت البصيرة ترجمة لها لأنها تنسجم مع قوله تعالى (بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره) فالبصيرة تعني إدراك (الأعذار) التي يلجأ إليها العقل أحياناً لخداع نفسه وتحييد الأثر السلبي لهذه الأعذار. سأضرب مثالاً على ذلك من تجربتي الشخصية، تصرف ابني مرة بأنانية فغضبت غضباً شديداً لا يتناسب مع حجم الخطأ الذي ارتكبه وتصرفت بطريقة أثرت سلباً على علاقتي به ولم توصل إلى النتيجة التي كنت أريدها وهي تنبيهه إلى خطأ تصرفه ليتجنبه في المرة القادمة، انتبهت بسرعة إلى أن غضبي لا يتناسب مع خطأ ابني ولا يؤدي إلى النتيجة التي أريدها وهي مساعدته على الانتباه إلى هذه الأنانية والنفور منها، وعندما فكرت في سبب هذا الغضب استحضرت ذاكرتي صورة صديق لي كان يتصرف بأنانية مفرطة معي، لقد كان عقلي الباطن يختزن كماً هائلاً من الاستياء والغضب من هذا الصديق وكنت أكتم مشاعري تجاهه فانفجرت هذه المشاعر في وجه ابني عندما تصرف بشكل مشابه، إدراك هذا الأمر ساعدني على تهدئة غضبي أولاً ثم اختيار ما يجب أن أقوله وأفعله لأصلح علاقتي مع ابني ولأتحدث معه بطريقة هادئة ومؤثرة تنبهه إلى أنانيته وتدفعه إلى النفور منها. إن الغضب الشديد جاء نتيجة لتفعيل مراكز الغضب في الجهاز اللمبي في دماغي، أما إدراكي لعدم تناسب هذا الغضب مع خطأ ابني، وبأن هذا الغضب سيضعف قدرتي على التأثير فيه، وإدراكي لتجربتي السابقة (مع صديقي الأناني) التي أدت إلى هذا الغضب، ولما يجب علي قوله وفعله لكي أؤثر في ابني التأثير الذي أريد، إدراك كل ذلك هو ما يسمى بالبصيرة وهو جاء نتيجة لتفعيل قشرة دماغي، ولا شك أن هذه التجربة أحدثت تغييراً في بنية دماغي على النحو الذي ذكرته سابقاً، هذا التغيير سيقلل احتمال وقوعي في نوبة غضب مشابهة في ظرف مماثل لهذا الظرف. يعرف الكاتب عمل العقل تعريفاً فريداً فيقول عمل العقل هو تنظيم مرور الطاقة والمعلومات في دماغ الإنسان، حيث أن جزءاً من هذه المعلومات يعرّف الإنسان بما يجب أن يفعله، والطاقة هي التي تدفعه إلى القيام بهذا الفعل، ويرى الكاتب أن الخلل في عمل العقل يحدث إما عندما يصاب هذا المرور بالبطء أو الجمود فيصاب الإنسان بالاكتئاب أو الإحباط أو عندما يكون هذا المرور هادراً وفوضوياً فيصاب الإنسان بالهوس أو القلق أو الشعور بالحيرة والارتباك والعقل السليم هو الذي تمر فيه الطاقة والمعلومات بشكل انسيابي ومرن، ومهمة البصيرة أن تؤمن هذه الانسيابية والمرونة، ويورد الكاتب تشبيهاً بليغاً لحالة الإنسان عندما يفعّل مهارة البصيرة لديه فيستخدم عجلة الدراجة كنموذج لعلاقة البصيرة بالإدراك؛ تخيل عجلة مكونة من محور تنطلق أربعة أسياخ تصل بينه وبين إطار العجلة، هذا الإطار يمثل مجالات الإدراك الأربعة: 1- الحواس الخمس، 2- إدراك الأحاسيس الجسدية (شد عضلي مثلاً، أو وضعية الأطراف وهكذا)، 3- إدراك الأفكار والمشاعر والصور التي تمر في العقل (كما حصل معي في مثال نوبة الغضب تجاه ابني)، 4- إدراك مشاعر الآخرين وأفكارهم. إعمال البصيرة يعني أن تجلس في المحور وتوجه انتباهك (الذي يمثله أحد الأسياخ الأربعة) باتجاه أحد مجالات الإدراك الأربعة (الذي يمثله ذلك الجزء من إطار العجلة الذي ينتهي به أحد الأسياخ الأربعة)، اجلس هناك بهدوء وراقب، لا تحاكم ولا تحلل ولا تستنتج، فقط راقب وتقبل ما تشاهده بكل انفتاح، مثلاً راقب أفكارك ومشاعرك والصور التي تمر في ذهنك، ستجد أنك أصبحت أكثر تفهماً لنفسك وأكثر قبولاً لها، هذا التفهم والقبول سيعطيك الحكمة لتقرر ماذا يجب عليك أن تفعل؟ تماماً (كما قررت أن أعتذر لابني عن نوبة الغضب وأشرح له أسبابها ثم أحدثه بهدوء وإقناع عن خطأ تصرفه). امتلاك مهارة البصيرة يعني الانتقال من العيش في دوامة الدوران مع إطار العجلة إلى محور العجلة الساكن حيث يمكنك تركيز انتباهك على أحد أجزاء الإطار للوصول إلى حالة القبول والتفهم والقدرة على اتخاذ القرار الحكيم، تشبيه بليغ آخر يورده الكاتب على مهارة البصيرة وهو القدرة على الانتقال من سطح المحيط الهائج المضطرب إلى أعماقه الهادئة حيث تراقب السطح من أسفل دون أن تتأثر بهياجه، وهنا يمثل السطح المضطرب الحالات الشعورية والفكرية المتنوعة التي يمر بها الإنسان والأعماق الهادئة مكان البصيرة التي تراقب وتتفهم وتتقبل ثم تتخذ القرار المدروس بعيداً عن ردود الأفعال. ويؤكد الكاتب أن الأبحاث المعتمدة على تصوير نشاط الدماغ تبين أن المنطقة المسؤولة عن البصيرة هي قشرة الدماغ (الجبهية بالتحديد) وأن تفعيل هذه المنطقة باستمرار يؤدي إلى تغير في بنية الدارات العصبية الموجودة فيها تجعل الإنسان أكثر فهماً لنفسه وأكثر قدرة على التحكم بها وبالتالي تجعله أكثر سعادة، أما عن طرق تفعيل هذه المنطقة فهي التأمل والاسترخاء بطرقه ومدارسه المتنوعة التي لا يخوض فيها الكاتب لأنها مشروحة في كتب أخرى، ويبقى الجديد في هذا الكتاب هو أن تمارين التأمل والاسترخاء ومراقبة الأفكار والمشاعر وتسميتها واستخدام الإرادة للتغلب على النزوات ليست أموراً معنوية فقط وإنما تحدث تغييراً مادياً في بنية الدماغ تماماً كالتغيير الذي تحدثه التمارين العضلية في بنية العضلات
الدكتور ياسر تيسير العيتي
دمشق – 2/9/2011