cover

كيف نتقدم وهم يدقون نعوشنا؟

شهد العالم كله الجندية البريطانية التي أسرها الإيرانيون وهي تكتب الرسالة تلو الرسالة تعترف فيها بخطئها لأنها دخلت المياه الإقليمية الإيرانية وتشكر النظام الإيراني على حسن المعاملة وتطلب من الشعب الإيراني الصفح والغفران. وبعد أن أُطلق سراحها سمعها العالم وهي تتحدث عن التهديد الذي تعرضت له وكيف أن الإيرانيين قاموا بأخذ مقاساتها وقالوا لها (ما رأيك بالموت في سبيل الوطن؟) وكيف سمعت صوت المسامير وهي تدق في غرفةٍ قريبة منها فظنت أن نعشاً يهيّأ لها

الإنسان هو الإنسان مهما كان جنسه أو عرقه أو لونه أو دينه والحاجة إلى البقاء هي من أقوى حاجات النفس البشرية لذلك آثرت تلك المجندة الخضوع لرغبة آسريها على فقد حياتها. إن ما تعرضت له تلك البريطانية في تجربتها القصيرة التي لم تتجاوز عدة أيام تتعرض له الشعوب العربية منذ عقود من الزمن.. أنظمة طاغية متجبرة لا قيمة عندها للإنسان ولحياة الإنسان ولكرامة الإنسان.. أنظمة تأسر شعوبها وتصنع النعوش لمن يعارضها ويخالف إرادتها وتُسمع شعوبها صوت دق نعوش المعارضين صباح مساء لكي يخافوا ويخضعوا كما خافت تلك المجندة البريطانية وخضعت (لا يعني ذلك إغفال حقيقة أن تلك المجندة ومن معها هم معتدون على العراق ولو لم يؤسروا في المياه الإيرانية، لكنني أتحدث هنا عن أثر الخوف في سلوك الإنسان). لقد حركت تلك الواقعة في نفسي الكثير من الأشجان والأفكار، فالإنسان الغربي الذي يصنع لنا دواءنا وسلاحنا ومعظم ما نستخدمه في حياتنا والذي باسمه تسجَّل الكثرة الساحقة من الاكتشافات والاختراعات والذي تقوم الدنيا وتقعد عندما يُعتدى عليه في بقعة من بقاع الأرض، هذا الإنسان تحول عندما تعرض للخوف، الذي يتعرض له الإنسان العربي كل يوم، إلى قط مذعور وبوق يردد ما يُطلب منه! إن الإنسان العربي لا يقل ذكاء وإمكانياتٍ عن نظيره الغربي لكن الأنظمة المستبدة الني  تسلطت على هذا الإنسان وأخذت تُسمعه صوت نعشه وهو يدق إن هو عارضها قيدت إرادته وعطلت إمكانياته وحولته إلى عبد يأتمر بأوامر جلاديه ويقول ما يريدون منه أن يقول ولو كان ذلك يخالف قناعاته - تماماً كما حدث مع تلك المجندة الغربية - وهكذا أصبحنا أكثر أمم الأرض تخلفاً وظلماً وفساداً في ظل هذه الأنظمة المستبدة.  عندما نتحدث بهذا المنطق يقول لنا البعض (المشكلة ليست في الحكام وإنما المشكلة في الشعوب) أو (كما تكونون يولَّ عليكم) أو (التغيير يبدأ من أسفل الهرم وليس من أعلاه) وأنا أتفق مع هؤلاء تماماً فالمشكلة في الشعوب التي لا تعتبر تحكم الظالمين فيها مشكلة .. وكما تكونون يولَّ عليكم يعني أنكم عندما تكونون خانعين ساكتين على الظلم يولَّ عليكم الظالمون.. والتغيير يبدأ من أسفل الهرم يعني أن التغيير يبدأ بتغيير قناعات الشعوب وأول قناعة سيؤدي تغييرها إلى زوال الظالمين هي قناعة الشعب بأن تسلط الظالمين عليه ليس هو المشكلة! عندما يفرض الحاكم نفسه على المجتمع بالقوة لا بالإقناع وعندما يسوِّق نفسه بالكذب لا بقول الحقيقة يعيش المجتمع كله في ظلَّ كذبة كبرى ويتسرب الكذب إلى كل مفاصل الحياة في المجتمع ويصبح الحديث عن (مكارم الأخلاق) من دون الإشارة إلى هذه الكذبة الكبرى هو مجرد كذبة أخرى .. لذلك نجد في مجتمعنا الكثير من الوعظ والحديث عن مكارم الأخلاق من دون أي أثر في قلوب الناس وعقولهم وبالتالي من دون أي أثر في سلوكهم وواقعهم. ومرة أخرى أقول: لا يعني ذلك سب الحاكم وشتمه أو دعوة الناس إلى الثورة عليه وإنما يعني الوقوف في وجه تجاوزات هذا الحاكم وأعوانه للدستور والقانون - وما أكثر هذه التجاوزات – وليكن هذا الوقوف بالقول اللين وبالحكمة والموعظة الحسنة وليكن بالسر في بعض الأحيان وبالعلن في أحيان أخرى ليتحول الوقوف في وجه الظالمين إلى ثقافة تتبناها الأمة فلا يتجرأ أحد على الاعتداء عليها وسلب حقوقها . إن القول اللين الذي واجه به موسى فرعون لم يكن سكوتاً على الحقوق المسلوبة أو تسبيحاً وتمجيداً بحمد فرعون كما يفعل البعض  ويستشهدون بقوله تعالى {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} (سورة طه: 44) لقد دعا موسى فرعون إلى أن لا يجعل نفسه إلهاً على الناس (وهذا ما يفعله الحكام الظالمون عندما يعيشون هم وأعوانهم فوق كل دستور وقانون!) فهل هناك من (المصلحين) من يقول ذلك للحكام؟ أرى أن معظم (المصلحين) اليوم يتجنبون أي قول يُحتمل أن يغضب الحاكم ولو كان هذا الاحتمال واحد في الألف ومعظمهم غير مستعد للتضحية ودفع ثمن كلمة الحق ولو كان الثمن صفعةً من رجل أمن! أبمثل هؤلاء تحيا الأمم وتتنصر الشعوب المظلومة ويُحقُّ الحق ويُبطَلُ الباطل؟

2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share