cover

لأجلك يا بني .. فلتعذرني

إلى ابني عبد السلام الذي دخلت السجن وهو في الثانية من عمره

أي بني، ما زلت أذكر تلك اللحظة التي رأيتني فيها عندما جاءوا بك لزيارتي في السجن لأول مرة بعد شهرين من اعتقالي. في تلك اللحظة تكورت شفتاك الرقيقتان محاولاً التلفظ بكلماتٍ لم تستطع البوح بها لأنك لم تتعلم النطق بعد، أما يدك الصغيرة فقد امتدت بلهفة نحوي وعندما اصطدمتْ بالشبك المعدني الذي يفصل بيننا أدخلتَ أصابعك النحيلة في ثقوب ذلك الشبك محاولاً تلمس وجهي ولما باءت محاولاتك بالفشل أشحت وجهك عني وقد ارتسمت عليه ملامح الغضب والحيرة. كنت غاضباً لأنني لم أحملك وأعانقك وأقبلك كعادتي في كل مرة تمد فيها يدك إلي، وكنت حائراً لأنك لم تفهم سبب قسوتي وجفائي في تلك اللحظة

ثم مرت الشهور يا بني وتعلمتَ خلالها النطق والحديث ومع ذلك كان الصمت يخيم عليك في المرات القليلة التي جئت فيها لزيارتي في السجن. كنت تجلس صامتاً وعلى وجهك ملامح الغضب والحيرة ذاتها، ولعل صمتك البليغ كان طريقتك الوحيدة في التعبير عن احتجاجك على هذا الوضع الغريب حيث لا تستطيع رؤية أبيك إلا لبضع دقائق كل عدة أسابيع وفي هذه الفترة القصيرة كان ذلك الشبك اللعين يفصلك عنه فلا تستطيع إليه وصولاً

أي بنيٍ، ستعذرني غداً وستفخر بي عندما تدرك أنني سُجنت لأنني أردتك أن تكبر في وطن تعلو فيه قيم الحرية والمساواة واحترام كرامة الإنسان

أردتك أن تكبر في وطن لا يكون فيه لأحد حق الوصاية على أحد، بل يتساوى فيه الجميع في حق المشاركة في بنائه وصنع مستقبله

 أردتك أن تكبر في وطن يُعامل شعبه على أنه مجموعة من البشر المستحقين للحياة الحرة الكريمة ولممارسة حقوقهم السياسية كبقية شعوب الأرض

أردتك أن تكبر في وطن تتحقق فيه المحاسبة الحقيقية للحكام عبر صناديق الاقتراع في عملية سياسية تعددية تداولية لا توصل إلى السلطة ولا تُبقي فيها إلا الأحزابَ التي تثبت أنها الأنظف والأكفأ

هذا الوطن يا بني هو رؤية ستتحقق لأنها تنسجم مع إرادة الله الذي خلق الإنسان ليتمتع بحقوقه وكرامته  (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) الإسراء:70

هذا الوطن يا بني هو رؤية ستتحقق لأنها تنسجم مع مسار التاريخ الذي يُبقي ما ينفع الناس ويُذهب ما سوى ذلك (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) الرعد:17

لأجلك يا بني، لكي تكبر في وطن يليق بإنسانيتك وبكرامتك التي حباك الله إياها.. كان السجن وكان البعاد الأليم فلتعذرني ولتردد معي ومن بعدي هذه الأبيات

بلادي ولو جُرتِ يوماً عليَّ .......... وطوَّقتِ بالقيد مني يديَّا
وألجمتِ بالقهر آهات صدري ...... ستبقين شعراً على شفتيَّ

أحبُّ ترابك في كـل شبرٍ .........دماءُ أبيٍّ ودمعُ أبيَّـــهْ
وأهوى النسائم فوق الروابي ......... تصلّي بفجرٍ صلاة نديهْ

بلادي ولست أخاف بلادي ........ ولو كان حتفيَ بين يديهـا
أيخشى الصغيرُ من الأمِّ يوماً ......... إذا ضمَّت الصدرَ منه إليها

بلادي سأمسح عنك الدموع .......... ولو نلت منك الأذى والنصالا
أمشِّط منك الجدائل حبــاً ...... ولو حول عنقي صارت حبالا

أنا ليس لي عندكَ اليومَ ذنبٌ ......... سوى قلبِ حرٍّ قليلِ الهجوعِ
أقاومُ عنك سهامَ الأعادي ......... وسهمُ الأقارب يُدمي ضلوعي

سأكتب فيك قصائد حبي ......... ولو كان جرحُ الفؤاد عميقا
يظلُّ الوفاءُ نديِّاً بقلبـي ......... ولو أنَّ جورَك أظمـا العروقا

الدكتور ياسر تيسير العيتي

18.6.2010

Share