cover

الثورة وتصحيح مفاهيم الدين

 يعرف الاستبداد أنه لا يمكن أن يوجد ويستمر إلا على أشلاء مجتمع مشوه التفكير، ضعيف الإرادة،  فاقد الثقة بنفسه، ويعرف أن العقول التي يسهل قيادها هي تلك التي تشوهت لديها المفاهيم، فأصبحت تسمي الخنوع حكمة، والرضى بالذل صبراً، والتملق للطاغية دعوة، والصدق تهوراً، والتمسك بالمبادئ عناداً، ولأن مجتمعنا متدين بطبيعته فقد استخدم الاستبدادُ لتشويه الفكر والوجدان خطاباً دينياً معوجّاً، يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، ويصور للناس أن سيف الطاغية المسلّط فوق رؤوسهم قدر من الله لا تجوز معاكسته، وأن الفتنة تكمن في قول كلمة الحق لا في مصادرة الحريات وقتل الأحرار وزجهم في السجون، وأن الأمن هو أن يأمن الطاغية وحاشيته من المساءلة والمحاسبة، وأن معركة الأمة مع أعدائها تلزمها السكوت على الظلم لأنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، ولكي يضمن هذا الخطاب بقاءه بعيداً عن النقد والمراجعة أوجد داخله آليات تبريرية تبرر فشله المستمر في حماية الأمة من الظلم والعدوان على حقوقها وكرامتها، فكل ما يعانيه الناس من ظلم الحكام هو بسبب ذنوبهم لا بسبب جور الحكام ولا تقصير العلماء الذين جعلهم الله ورثة الأنبياء في مهمة تحرير الإنسان من العبودية لغير الله فعكسوا هذه المهمة لتصبح جعل العبودية للطغاة طاعة يتقرب بها الناس إلى الله تحت مسمى (الصبر) و(الحكمة) و(الابتعاد عن الفتن) !! آمن الخطاب الديني المعوجّ ببعض الكتاب وكفر ببعضه، فهو عندما ينظر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (كما تكونوا يولّى عليكم) لا يفسر ذلك بأن الناس عندما يستمرئون الذل والهوان ويسكتون على الظلم فإن الله يولّي عليهم حكاماً ظالمين، ولا يذكر هذا الخطاب حديث الرسول (الناس على دين ملوكهم) والذي ينسجم مع ما تقره كل مدارس علم القيادة بأن القائد بالتعريف هو الذي يؤثر سلوكه في سلوك من يقودهم وليس العكس وإلا فلا يستحق أن يكون قائداً! واستمر هذا الخطاب المعوجّ المضلّل في حرف أنظار الناس عن مكمن الخلل الحقيقي وقتل أي إرادة للوقوف في وجه الطاغية ليظلَّ (إلهاً) بعيداً عن أي مساءلة أو محاسبة فالمسؤول عن أخطاء الطاغية هم (البطانة) وليس هو، لذلك ندعو له دائماً بالبطانة الصالحة متجاهلين أن الطاغية هو المسؤول عن اختيار بطانته، وأن فسادها يعني أحد ثلاثة احتمالات: إما إنه يعرف هذا الفساد ويقرها عليه وبالتالي فهو أكثرها فساداً، وإما إنه لا يعرف وبالتالي فهو مغفل، أو إنه يعرف فسادها ولا يقرها عليه لكنه لا يستطيع تغييرها وبالتالي فهو ضعيف عاجز، وفي الحالات الثلاث (الفساد، والغفلة، والضعف) هو لا يستحق أن يكون حاكماً وأن يكون في هذا المنصب الخطير الذي يرتبط به مصير البلاد والعباد. لقد ابتلينا بخطاب ديني معوجّ يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه؛ فهو عندما يستشهد بقوله تعالى: (والفتنة أشد من القتل) يفسر الفتنة بأنها الوقوف في وجه الحاكم الظالم ولا يفسرها بأنها فتنة الناس عن دينهم بإخافتهم وإكراههم وإجبارهم بالقوة على القبول بما لا يريدون بدليل قوله تعالى (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم) وقوله عن إكراه أصحاب الأخدود (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)، فالسكوت على وضع يُكره فيه الناس على ما لا يريدون هو الفتنة بعينها، وهو الذي يشجع الطاغية على الظلم والإكراه، بل قد بلغ تشوه الفكر والوجدان عند أحدهم ممن يتبنّون هذا الخطاب الديني المعوجّ أن وضع صورة حي دمرته عصابات النظام ووضع تحتها سؤالاً يغمز فيه من قناة الثورة: هل تستحق الكرامة كل هذا؟ بدلاً من أن يطرح السؤال الذي يمليه العقل والوجدان السليمان: هل يستحق التمسك بالكرسي كل هذا؟

لقد قعد هذا الخطاب المعوجّ بالأمة ولم يتقدم بها خطوة واحدة إلى الأمام على الرغم من أنه استلم عشرات الألوف من المنابر قروناً من الزمن وأتحفنا بملايين الخطب الرنانة الحماسية، لكنه لم يتقدم بالأمة خطوة واحدة إلى الأمام لأنه خطاب مشوّه يقلب المفاهيم رأساً على عقب، كالإنسان المقلوب الذي رأسه في الأرض وقدماه في السماء مهما حركهما بحماس فلن يتقدم خطوة واحدة

لكن الله بالغ أمره، ونوره لا يمكن أن يطفئه ظلم أو جهل، وهو خلق الشعوب لتحيا بكرامة لا لتموت تحت نير الظلم والعبودية، لذلك كانت ثورة في بلاد الشام قلبت عالي هذه المفاهيم الخاطئة أسفلها، وبينت أن السكوت على الظلم لا يحمي المجتمع من الفتن بل يمكّن الطغاة أن يستنسروا وتصبح لهم مخالب وأنياب فإذا صحا الناس من غفوتهم وطالبوا بحقوقهم وكرامتهم كان الثمن ألماً ودماً، بينت ثورة الشام أن المساجد التي لا تكون قلاعاً للحرية ومنائر تعلم الناس كيف يطالبون بحقوقهم ويرفعون أصواتهم في وجه من يظلمهم ستنكسر مآذنها ذات يوم وستنهدم قبابها على يد الطاغية نفسه التي كانت تسبح بحمده وتبرر أفعاله، لقد أعادت الثورة الدين إلى دوره الحقيقي: موقظاً للشعوب ومحركاً لها، وحامياً لكرامتها، وسائراً بها في دروب العزة، وقائداً لها في معارج الرفعة والنهوض، هذا الفهم للدين هو ما يخيف طغاة العالم من ثورتنا ويدفعهم إلى محاولة إجهاضها بشتى الوسائل، وهذا الفهم هو ما سننتصر به بإذن الله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

1/7/2013

Share