cover

فن النصيحة

 حدثني خطيب في أحد المساجد كيف أنه بعد انتهائه من الدرس الذي يلقيه في المسجد تقدم إليه أحد المصلين وشكره على الدرس وقال له بلطف وعلى انفراد " إن تكرار القصص التاريخية ذاتها وعدم ربطها بواقع الناس يشعرهم بالملل وحبّذا لو تحدثت عن الواقع لكانت دروسك وخطبك أكثر تأثيراً وشدّاً للناس" وقال لي ذلك الخطيب كيف أن هذه الملاحظة ساعدته كثيراً على تطوير خطبه ودروسه وقد لمس أثر ذلك مباشرة في وجوه وعيون من ينصتون إليه ولولا شجاعة ذلك المصلي الناصح ولطفه لفاته ولفات الناس خير كثير

نعم إن لكل واحد منا بقعة عمياء أي عيوباً لا يستطيع هو رؤيتها وإنما يراها من حوله ولا يمكننا أن ننمو في هذه الحياة ونتطور إلا إذا يسر الله لنا أشخاصاً صادقين ومخلصين ينبهوننا إلى هذه العيوب.  إن الإنسان المتواضع الممتلئ صدقاً واستقامة وعلماً وعملاً وحباً للناس واحتراماً لهم وتقديراً لكرامتهم يستمد شعوره بالأمن من داخله أي من استقامته على المبادئ التي يؤمن بها وبالتالي يستطيع هذا الإنسان أن يتقبل النصيحة ويرحب بها ويستفيد منها ويشكر من قدمها إليه، أما الإنسان المتكبر الفارغ الذي يستمد شعوره بالأمن من الخارج أي من مديح الناس له وثنائهم عليه فإنه يرفض النصيحة لأن مدح الناس له وثناءهم عليه هو المصدر الوحيد لشعوره بالأمن فإذا جاءته ملاحظة سلبية من الآخرين يفقد ذلك الشعور بالأمن ويشعر بفزع شديد ويعبر عن فزعه برفض النصيحة والإعراض عنها وربما يعاقب الناصحَ إذا كان في موقع سلطة يمكِّنه من ذلك، وهنا يمكننا أن نفهم لماذا يرفض المتكبرون الفارغون أيَّ نقد يوجه إليهم ولماذا لا يتوقعون إلا المديح والثناء والتعظيم و التبجيل ولماذا كان فرعون يقول لقومه (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد

إن القيادي الناجح (سواء كان يقود أسرة أو مؤسسة أو دولة ) هو ذلك الشخص الذي يشيع حوله ثقافة التناصح، ويشجع الآخرين على النقد البناء فلا شيء يساعد الأفراد والمؤسسات على النمو والتطور أكثر من جو تشيع فيه ثقافة التناصح والنقد البناء ولا شيء يعيق تطور الإنسان بل ويدفعه إلى الوراء أكثر من ثقافة النفاق والمداهنة والممالأة والسكوت على الخطأ لذلك يصرح قائد عظيم مثل عمر بن الخطاب قائلاً (رحم الله امرأً أهدى إلى عمر عيوبه

إن ثقافة التناصح تقوي العلاقات بين الناس فكم من شخص ترسخت علاقتنا به بعد نصيحة ثمينة أهداها إلينا أو بعد أن نصحناه فقدم لنا شكره وامتنانه. إن كثيراً من الناس يعرضون عن تقديم النصيحة للآخرين بسبب جهلهم بالأسلوب الصحيح للنصيحة واعتقادهم بأن النصيحة يمكن أن تسيء إلى علاقاتهم مع الآخرين ولاسيما إذا مروا (أو سمعوا) بتجارب قُّدمت فيها النصيحة على نحو غير صحيح وأدت إلى نتائج سلبية

إن هذه النقاط السبعة تعلمنا كيف نقدم النصيحة

1- راجع دوافعك: اسأل نفسك: هل أقدم هذه النصيحة من أجل الإصلاح وحباً بالشخص الذي أنصحه وحرصاً عليه؟ إن الآخرين يقبلون نصائحنا مهما كانت مُرَّة عندما نلفَّها بغلاف رقيق من الحب

2- وجهاً لوجه وعلى انفراد: إن أفضل طريقة للتواصل هي اللقاء الشخصي. فالرسائل المكتوبة و الأحاديث على التلفون لا تتيح مجالاً لاستخدام لغة الجسد في التواصل وهي تشكل 70% من وسائل التواصل. وأن يكون الأمر على انفراد فالمرء لا يحب أن تذكر عيوبه أمام الآخرين ورحم الله من قال ( من نصح أخاه سراً فقد زانه، ومن نصحه جهراً فقد شانه

3-   ابدأ بالحديث عن مشاعرك واستخدم (أنا) وليس (أنت) وتحدث عن (السلوك) وليس عن (الشخص): عندما نبدأ بعبارة (أنت فعلت كذا وكذا) فإن الشخص الآخر قد يشعر بالهجوم ويتخذ موقفاً دفاعياً، أما عندما نبدأ حديثنا بعبارة (أنا شعرت بكذا حيال ذاك التصرف) فإن الشخص الآخر يصبح أكثر استعداداً للإنصات إلينا

4- تحدث عن حقائق ومعلومات ولا تطلق أحكاماً: لنفرض أن لديك صديقاً يتأخر أحياناً عن مواعيده معك فإن البداية الأفضل للحديث معه أن تقول " شعرت بالانزعاج من تأخرك نصف ساعة عن موعدنا يوم الخميس" لا أن تقول له (أنت مهمل) أو (أنت تتأخر عن المواعيد دائماً

5- اقترح حلولاً: كما فعل ذلك الشخص الذي ذكرت قصته في بداية المقال فقد ذكر المشكلة (شعور الناس بالملل) واقترح لها حلاً (ربط القصص بالواقع

6- قدم النصيحة بعد حدوث الخطأ مباشرة: فذلك يدل على اهتمام حقيقي بالشخص الآخر وهو أدعى إلى تذكر النصيحة فيما بعد

7- بعد النصيحة، أنصت باهتمام: قد تكون للشخص الآخر وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظرنا، وهنا علينا أن ننصت إليه باهتمام وتجرُّد وأن نضع في أذهاننا احتمال أن نكون مخطئين وأن تكون نصيحتنا في غير محلها

2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share