cover

ما فوق المنافسة

تعتمد معظم المؤسسات على مفهوم المنافسة لتحقيق النمو وزيادة الأرباح. تركز المنافسة على عدة أمور منها: تخفيض النفقات وإعادة الهيكلة وتحسين نوعية المنتجات والخدمات. المنافسة ضرورية لبقاء المؤسسات ولكن إذا أرادت المؤسسة أن تنجح وتتفوق على منافسيها على المدى الطويل فإن المنافسة لا تعود كافية لوحدها ولا بد هنا من تبني مفهوم جديد يسميه إدوارد دي بونو (ما فوق المنافسة). إذا كانت المنافسة تهتم بتحسين نوعية المنتج فإن ما فوق المنافسة تهتم بتفرُّد القيمة التي يقدمها هذا المنتج وهنا قد يحتج البعض بأن ذلك هو جزء من المنافسة لكن إدوارد دي بونو يرى فرقاً كبيراً بين المفهومين فالمنافسة لا تتم بدون وجود متنافسين لأنها تعتمد على المقارنة مع الآخرين فأنت هنا تحاول أن تتفوق على الآخرين، أما مفهوم ما فوق المنافسة فلا يعتمد على المتنافسين؛ أنت تحاول هنا أن تعطي قيمة أفضل، أنت تحاول أن تتجاوز القيمة التي كنت تقدمها من قبل، أنت تسعى هنا إلى التفوق على نفسك. تستطيع المؤسسة أن تحقق ما فوق المنافسة بثلاثة طرق

1- القيم المتكاملة

2- الإبداع الجاد

3- البحث والتطوير في مجال المفاهيم

وسأستعرض فيما يلي، وبإيجاز، كلاً من هذه الطرق الثلاث

إن قيمة المنتج (أو الخدمة) تكمن في قدرته على تلبية حاجة الزبون فإذا لبى المنتج أكثر من حاجة للزبون في الوقت نفسه قلنا أن له قيمة متكاملة. لقد اخترع السويسريون حركة الكوارتز وكانت لديهم وحدهم المهارات اللازمة لصنع المسننات ونوابض التوازن الصغيرة واعتقدوا أنهم بهذا الاختراع سيعززون سيطرتهم على سوق الساعات في العالم لكن صانعي الساعات في اليابان وهونغ كونغ سيطروا على حركة الكوارتز  وهكذا وفي عام واحد انخفض مبيع الساعات السويسرية بنسبة 25%. إن الذي أنقذ صناعة الساعات السويسرية هو المفهوم غير السويسري لساعة (السواتش). لقد أطلقت السواتش رسالة مفادها أن الوقت لم يعد أهم شيء في الساعة واستطاعت  بتصاميمها المتنوعة والمتجددة أن لا تبيع الزبائن الوقت فقط وإنما أيضاً أن تبيعهم المتعة والموضة! هذه الساعة ذات القيمة المتكاملة هي مثال على ما فوق المنافسة الذي أعاد للساعة السويسرية حصتها من سوق الساعات العالمي. قبل عدة سنوات استلم رجل في باكستان يدعى نيشتار إدارة بنك زراعي مفلس.  أخذ نيشتار موظفي القروض من خلف طاولاتهم ووضعهم على دراجات نارية وأعطاهم دورات في طرق الزراعة وطلب منهم أن يطوفوا في القرى لينصحوا المزارعين ويقدموا لهم القروض وفي أوقات الحصاد كان الموظفون هناك يساعدون المزارعين على جمع المحصول والتأكد من بيعه. استعاد البنك المفلس عافيته ونحج نجاحاً باهراً لأنه لم يكن يقدم القروض فقط بل كان يقدم الاستشارات الزراعية ويساعد المزارعين على الحصاد وعلى تأمين بيع المحصول لقد لبى أكثر من حاجة في الوقت نفسه وهذا مثال ممتاز على القيمة المتكاملة

عندما أطلقت شركة مارس أول زوج من قضبان الحلوى لم يكن هناك توقعات بالنجاح الكبير لهذا الشكل المختلف قليلاً. لكن الأمر المفاجئ هو أن المبيعات كانت هائلة. ما سر ذلك؟ في ذلك الوقت كان الناس قد بدءوا  يعون أهمية الصحة والحمية وتخفيف الوزن، إذا كان لديك قضيب من الحلوى وأكلته سوف تشعر بوحدة من الشعور بالذنب ولكن بوجود قضيبين إذا أكلت قضيباً واحداً سوف تشعر بنصف وحدة من الشعور بالذنب ثم فيما بعد إذا أكلت القضيب المتبقي سوف تشعر بنصف وحدة أخرى  وكما يعلم الجميع فإنه في حسابات الشعور بالذنب عندما يُجمع النصفان لا يصبحان واحداً. وهكذا يلبي هذا الشكل الجديد من الحلوى حاجتين عند الزبون؛ حاجته إلى أكل الحلوى وحاجته إلى أن لا يسبب له ذلك شعوراً كبيراً بالذنب! وهذا مثال آخر على القيمة المتكاملة التي يمكن أن يقدمها منتج ما. بقي أن نقول أن مجرد ابتكار منتج (أو خدمة) يقدم قيمة متكاملة لا يعني ضمان التفوق إلى الأبد لأنه يسهل أحياناً على الآخرين أن يقلدوا القيم المتكاملة وبالتالي يفقد المنتج ميزته لذلك لا بد هنا من تطوير المنتج بشكل مستمر والبحث الدقيق عن حاجات الزبائن المتغيرة والمتجددة فقضيبي الحلوى مثلاً لم يعودا مقتصرين على شركة مارس وقد استطاعت إحدى الشركات أن تحقق زيادة هائلة في المبيعات عن طريق ابتكار حلوى مصنوعة من الجوز المأخوذ من غابات الأمطار في بيرفيا مع دعاية تؤكد أن شراء هذه الحلوى يظهر أن لغابات الأمطار قيمة تجارية إذا تم الحفاظ عليها أكبر من القيمة التجارية الناجمة عن حرقها وبالتالي أصبحت هذه الحلوى تلبي عند الزبون - إضافة إلى حاجته لأكل الحلوى - حاجته إلى الحفاظ على البيئة بشكل عام وعلى غابات الأمطار بشكل خاص وهي حاجة لم تكن ملحة قبل عدة أعوام لكنها أصبحت اليوم حاجة ملحة بسبب تزايد المشاكل البيئية التي يعاني منها العالم وارتفاع درجة حرارة الأرض

لننتقل الآن إلى طريقة ثانية لتحقيق ما فوق المنافسة وهي الإبداع الجاد

يعتقد إداورد دي بونو أن أكبر عائق يحول بين العقل البشري والإبداع هي تلك النظرة النمطية السائدة التي تقول إن الإبداع هو موهبة توجد عند بعض الناس ولا توجد عند البعض الآخر وأن الشخص المبدع ما عليه إلا أن ينتظر لحظة الإلهام حتى تأتيه الفكرة المبدعة! يعارض دي بونو بشدة هذه النظرة وهو يعتقد أن الأشخاص المبدعين إنما يبدعون لأنهم يتبعون آليات معينة في التفكير فإذا اكتشفنا هذه الآليات وصممنا أدوات معينة على أساسها فإن أي شخص يستخدم هذه الأدوات يمكن أن يصل إلى أفكار مبدعة. لذلك سمى دي بونو هذا النوع من الإبداع بالإبداع الجاد لأنه يعتمد على جهد عقلي واعٍ وعلى أدوات يمكن تعلمها وتطويرها باستمرار. إن المؤسسة بحاجة إلى الإبداع على نحو يومي لحل المشاكل التي تواجهها ولتطوير منتجاتها وخدماتها وللتخطيط واستشراف فرص المستقبل. وسأذكر فيما يلي بعض الأدوات الإبداعية التي طورها دي بونو

الطريقة الثالثة التي يقترحها إدوارد دي بونو  لتحقيق ما فوق المنافسة هي البحث والتطوير في مجال المفاهيم

 3- البحث والتطوير في مجال المفاهيم

تهتم كثيرٌ من المؤسسات بالبحث والتطوير في المجال التقني ولكنهم لا يعطون اهتماماً كافياً لتطوير المفاهيم. يعرّف دي بونو المفهوم على أنه "طريقة القيام بفعلٍ ما يحقق غاية ويعطي قيماً" وهو يقترح إيجاد قسم في كل مؤسسة مهمته البحث والتطوير في مجال المفاهيم. لقد ظل الشرطة في الولايات المتحدة عاجزين عن منع السيارات من الوقوف في الأماكن المخالفة لأن العقوبة كانت دفع الغرامة وكان كثيراً من السائقين يقفون في الأمكنة المخالفة ثم يدفعون الغرامة من غير مبالاة. بدأت المخالفات تنخفض بشكل كبير عندما أصبح الشرطة يضعون ملزمة حول الدولاب تمنع السيارة من السير بحيث لا يستطيع صاخب السيارة أن يفك الملزمة ويحرك السيارة قبل دفع الغرامة. المفهوم الجديد الذي اعتمد عليه الشرطة هنا هو مفهوم (الإزعاج والتعطيل) وقد كان كافياً لردع المخالفين.  إن هدف المجموعة التي تقوم بأبحاث على المفاهيم وتطوّر مفاهيم ما فوق المنافسة هو البحث عن طرق لتلبية عدة حاجات معاً ولتحقيق القيم المتكاملة في المنتج أو الخدمة ومتابعة الحاجات الجديدة التي قد تنشأ لدى الزبائن بل خلق هذه الحاجات في بعض الأحيان! وجعل هذه العملية عملية منهجية مستمرة بدلاً من الاعتماد على ضغوط المنافسين كحافز وحيد لتطوير المفاهيم

2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share