cover

خواطر 2017 -2

كل قطرة دم تراق على مذبح المشاريع الفصائلية والمناطقية تزيد كفر السوريين بهذه المشاريع وتؤسس عميقاً في وعيهم لدعائم المشروع الذي يعبّر عن صرخات المتظاهرين الأولى وإن كانت معالم البناء الذي سيعلو تلك الدعائم لم تتضح بعد


ليس القصد من هذا المنشور رفع معنويات أو خفضها وإنما التعبير عن وجهة نظري في هذه الثورة ... 1- هذه الثورة انفجار مجتمعي سببه عجز النظام الحاكم طوال ستةعقود عن تحقيق الحد الأدنى من حاجات المجتمع المعنوية والمادية. ما كان للسوريين بعد كل هذا الحرمان والاحتقان ألا يثوروا إلا في حالة واحدة، لو لم يكونوا بشراً! 2- لو كان عند الناس الوعي الكافي ليتجنبوا الإشكالات التي ظهرت في الثورة لما احتجنا إلى ثورة أصلاً. ما نلاحظه من ضعف في الوعي وضمور في القدرات على المستويين الشخصي والجماعي هو نتيجة طبيعية لتعطيل القدرات وتجهيل الناس. عندما اجتمع شباب داريا عام 2003 لتنظيف شوراع مدينتهم دكوا في السجون. تطور الوعي عند شبابنا يحدث بشكل تدريجي وتراكمي وسريع نسبياً قياساً إلى تاريخ الشعوب. الكثيرون ممن ساهموا في الثورة تعلموا في عدة سنوات ما لم يكونوا ليتعلموه في الظروف الطبيعية في عشرات السنين. 3- الكثيرون ممن استلموا دفة القيادة في المجالين السياسي والعسكري لم يكونوا مؤهلين لأننا لسنا في وضع مستقر يوجد فيه شواغر وظيفية يتم فيها اختيار الأكفأ والأكثر إخلاصاً. الجرأة هنا أهم من الخبرة، والتسلق ممكن جداً. لكن مرة أخرى هذا أمر طبيعي ومؤقت فمع الوقت تفرز الساحات رجالها على كل الصعد، ويكثر الداخلون إليها نتيجة إعداد لا اندفاع ويكثر الخارجون منها بسبب الفشل في كسب ثقة الناس. 4- نحن السوريون لم نكن موجودين قبل الثورة بالمعنى الإنساني للوجود، لم نكن موجودين كشعب له كرامة وإرادة. لحظة الثورة كانت لحظة ولادة السوريين كشعب يريد أن يلعب دوراً في هذا العالم. من الطبيعي أن تكون حركات الوليد عشوائية وقدرته على التعبير محدودة ومن الطبيعي أيضاً أن قوى الشرق والغرب التي تملك من الأدوات والقدرات أكثر بكثير مما يملكه هذا الوليد الناشئ أن تنجح في البداية في جره إلى حيث تريد هي لا إلى حيث يريد هو، لكن الوليد تستقيم خطواته ويملك المزيد من أمره كلما عركته الأيام. 5- في تقديري أننا نحتاج إلى جيل تقريباً (عشرين عاماً) حتى ترتفع نسبة الوعي عند السوريين إلى درجة تمكنهم من الاستقلال الحقيقي وبناء دولة يفتخرون بها بين الأمم. 6- أخيراً لنتذكر أنه لولا الثورة لما كنا نتحدث اليوم عن سوريين أو وعي أو بناء وإنما عن الشركات الجديدة التي أنشأها رامي مخلوف!


الأمان الداخلي inner security والشخصية السورية افتقاد الأمان الداخلي يصنع الإنسان المكتفي بذاته الذي يخاطب نفسه ويدور حول قناعاته ويعتبر أي مخالفة لرأيه تهديداً يرفضه قبل التفكير فيه. افتقاد الأمان الداخلي يصنع الإنسان الذي يعتبر نجاح الآخرين فشلاً له فيتجاهل إنجازاتهم وقد ينسبها لنفسه . افتقاد الأمان الداخلي يشوه تفسير الإنسان لتصرفات الآخرين فيعتبرها موجهة ضده ولو كانت تحتمل تفسيراً آخر لكن التفسير الأسوأ يسبق إلى عقله ويتحول إلى قناعة راسخة. افتقاد الأمان الداخلي يؤدي إلى ارتكاسات حدية إما غاية في الجبن والانسحاب والتنازل عن حقوق الذات أو غاية في التعدي وانتهاك حقوق الآخرين. عندما يختلف شخصان يفتقران إلى الأمان الداخلي يتعامل كل منهما مع الخلاف بطريقة تقلل من شأن الآخر وبالتالي تعزز عدم شعوره بالأمان وتعزز ما ينجم عن ذلك من سلوك سلبي نافٍ للآخر وهكذا تتحول الخلافات إلى صراعات لإثبات الذات. افتقاد الأمان الداخلي يفسر الكثير من تصرفاتنا نحن السوريين وما نتصف به من فردية وافتقار إلى روح العمل الجماعي. ما هدمته الأفعال لا تبنيه الأقوال. الأمان الداخلي لا تصنعه عبارات المديح والمجاملة. المعاملة باحترام هي التي تعطي الإنسان الشعور بتقدير الذات الذي يمنحه الأمان الداخلي. نحن السوريون نفتقر عموماً إلى الأمان الداخلي. لا يعود الأمر إلى خلل وراثي أو سوء طبع متجذر فينا وإنما هو العيش لأكثر من نصف قرن في بيئة لا قيمة للإنسان فيها ولا احترام لحقوقه وكرامته بل حتى لحياته مما أفقدنا تقديرنا لذواتنا وبالتالي شعورنا بالأمان الداخلي. لا توجد حلول سهلة أو قصيرة الأمد، سنتعافى تدريجياً عندما نتعامل مع بعضنا البعض كبشر لهم قيمة. ، تفهمنا لهذا الأمر، وتعاملنا مع بعضنا البعض باحترام، والتواصل فيما بيننا بصراحة يسرّع التعافي.


كنت أقرأ قوله تعالى (القوي الأمين) فانكشف لي معنى جديد جعلني أرى القوة والأمانة خيطين منجدلين بحبل واحد العلاقة بينهما علاقة تفاعل بعد ما كنت أراهما صفتين منفصلتين العلاقة بينهما علاقة تجاور. إذا كانت الأمانة هي الصدق فمن الصدق مع الذات أن يعترف الإنسان بنقاط ضعفه عندما يكون في موقع مسؤولية وأن يبذل ما بوسعه لتداركها. عندها سينقلب ضعفه إلى قوة وستوفر له هذه القوة القدرة والأدوات اللازمة لتحقيق الأمانة. وهكذا مزيد من الأمانة يؤدي إلى مزيد من القوة والعكس صحيح ويمضي اللولب صعودا


ما كان لشعبٍ لبس لَأمَةَ ثورةٍ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ثلاث معارك مؤجّلة أُكرهنا عليها وعسى أن نكره شيئاً وهو خير لنا: معركة لإخراج الاستبداد من حياتنا السياسية حتى لا يحكمنا أراذلنا ومعركة لإخراج المستعمر من أرضنا حتى نملك قرارنا ومواردنا ومعركة لإخراج الفرقة والتشرذم من صفوفنا حتى نوحد بلادنا تحت علم واحد يصون كرامتنا ودماءنا لسنا أول شعب في التاريخ يخوض هذا النوع من المعارك فمن كان يؤمن أن السوريين لا يستحقون أفضل من مكانيين: أسفل حذاء الطاغية أو أسفل حذاء المستعمر فليتحسر على مزرعة الأسد إلى آخر حياته، ومن كان يؤمن أن السوريين أهلٌ للعيش الحر الكريم فهذه فرصته ليساهم في كتابة التاريخ وصناعة مجد أمته.

في هذه المنطقة من العالم وفي هذه المرحلة من التاريخ الشعب الذي لا يرى مكانه الطبيعي فوق صهوات الخيل وإلى أجيال قادمة ستدوسه سنابك الآخرين. الصهوة هنا ترمز إلى ركوب كل ما يدفع العدوان من وسائل القوة الناعمة والخشنة، وإلى الخروج من برمجة ثقافية عرّفنا فيها أنفسنا أننا شعب خُلق لطلب الدعة والسلامة إلى برمجة جديدة نعرّف فيها أنفسنا أننا شعب خُلق لصد المعتدي وحفظ الكرامة.


لا يوجد (ثورة مضادة) الشعوب هي التي تثور أما الأنظمة فتتآمر


الإنكار على الظالم بالقلب هو أضعف الإيمان فإذا أصبح الإنكار قبولاً وتأييداً فإن العفن قد أصاب روح الأمة. إما فناء بعدها أو تطهير بالألم.


حقن للدماء أم عودة إلى الوراء؟!

في أيام الثورة الأولى وقبل أن يشتد عود المظاهرات السلمية في طول البلاد وعرضها كان موقف المشايخ بشكل عام يتراوح بين تحذير طلابهم من المشاركة في المظاهرات إلى الصمت والحياد. في المجالس الخاصة كانوا يتحدثون عن الخوف من أن تجر هذه المظاهرات البلاد إلى مجهول لا تُحمد عقباه لكن الجيل الجديد الذي لم تعد تقنعه رواية الخوف من المجهول تمرد على أوامر مشايخه الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما الوقوف في وجه ثورة الشباب مما سيصيب مصداقيتهم وبالتالي مكانتهم في مقتل، أو مجاراة هؤلاء الشباب ليحافظوا على تلك المكانة فاختاروا المجاراة ليس إيماناً بالثورة كطريقة للتغيير وإنما استجابة لضغوط واقع فاجأهم - كما فاجأ غيرهم. من الإنصاف القول إن الكثيرين من حملة العلم الشرعي انخرطوا في الثورة وساهموا في إذكائها لكن هؤلاء كانوا من الشباب من الصف الثاني أما الصف الأول فكان موقفه الأولي متسقاً مع الفتوى الشائعة منذ قرون الإسلام الأولى بوجوب الخضوع للمتغلب. تلك الفتوى التي تحولت من حالة اضطرارية استثنائية في سياق تاريخي معين إلى ثقافة تجعل السكوت على الظلم عبادة وتطلق يد الحاكم ليفعل في الأمة ما يشاء دون أي محاسبة، ومع أن المقصود بالفتوى كان منع الخروج المسلح إلى أنها تحولت إلى مبرر لمنع أي اعتراض على الحاكم ولو كان الاعتراض باللسان ولو كان مطالبة للحاكم بأداء حق معين وليس مطالبة بخلعه، ناهيك عن أن الفتوى تتحدث عن متغلب يحكم الأمة بالشريعة – رغم التجاوزات- وليس عن مغتصب يفرض عليها ما يخالف شريعتها. اليوم وبعد ما جرى في البلاد من دم وبعد ما كشفته الثورة من ضعف في النفوس يعود بعض من سايروا الشباب ابتداءً إلى خطابهم القديم قائلين: ألم نقل لكم؟ نقول لهؤلاء: الثورة كشفت ضعف النفوس ولم تصنعه بل وضعتنا في ظروف تجعلنا أكثر تحفزاً وإصراراً على إصلاحه. خطاب: ألم نقل لكم؟ لا يفرق بين ألم الولادة وآلام الاحتضار وينم عن ضعف ثقة بإمكانيات الأمة وعن خوف من المستقبل في أجواء الحرية وعن كفر بالقدرة على أن نأخذ أمورنا بأيدينا وعن اعتقاد بحاجتنا الأزلية إلى وصاية الظالمين. أصحاب هذا الخطاب يحمّلون شباب الثورة لا عصابة الأسد وزر الدماء، ويتمنون – من بين السطور وليس صراحة - لو أن هذه العصابة نجحت في إخماد الثورة منذ أيامها الأولى ليتابعوا طريقتهم في (الإصلاح التدريجي) التي ما كانت لتتجاوز السقف الذي وضعته عصابة الأسد والذي قزّم الشباب وحول الإسلام من قوة تحرُّر إلى وسيلة تطبيع مع الظالمين ولولا أن هامات الشباب ما عادت تطيق الانحناء لذلك السقف لكانت أكبر انتصارتنا اليوم انتزاع السماح من مساعد في الأمن لحلقة تحفّظ القرآن في زاوية مسجد!


عقد الطاعة بين الحاكم والأمة مشروط (أطيعوهم ما أطاعوا الله) وهذا ما جعل الإسلام أكبر قوة أخلاقية تحرر الإنسان من العبودية للبشر. إسقاط هذا الشرط جعل الدين أفيوناً من النخب الممتاز وأوصل الأمة إلى ما هي فيه وسيمضي بها من حضيض إلى آخر حتى تعود إلى العبودية لله وحده.