خواطر 2022-5
التعلم من التجارب السابقة واجب لكنه ليس غاية بل وسيلة لغاية أخرى وهي الاستفادة مما تعلمناه في خوض تجربة جديدة
التجربة الجديدة قد تأتي بنتيجة وقد لا تأتي بشيء، لكن من المؤكد أن التوقف عن المحاولة لن يأتي بشيء
(السوريون قطيع جاهل يحتاج إلى من يقوده) هذه ليست مقولة لأحد أركان النظام وإنما نظرة يحملها بعض المحسوبين على الثورة والمعارضة ويسرون بها في مجالسهم الخاصة، هؤلا ء أنفسهم يشتكون من عدم قدرتهم على جمع السوريين حولهم ولا يدركون أن سبب ذلك هو هذه النظرة بالتحديد!
أنا لا أنظر إلى السوريين كقطيع، وحتى من يحمل عقلية القطيع منهم نتيجة التجهيل والتبخيس الممنهج الذي مورس عليه لعقود، أنا لا أرضى له هذه العقلية وأعمل على توعيته وتمكينه حتى لا يرضى هذه العقلية لنفسه أو لغيره من السوريين
كسب قلوب الناس سهل جداً إن كنت لا تحمل نظرة التعالي عليهم وهي نظرة لن تستطيع إخفاءها إن كنت تحملها مهما حاولت ذلك،
في هذه الحالة الجهد المطلوب منك لكسب الناس ليس تجاه الناس وإنما تجاه نفسك حتى تتخلى عن نظرة التعالي تلك وبعدها يصبح طريق القلوب ممهداً
رحم الله أحد العارفين إذ يقول: فارق نفسك خطوة تصل
حوار دار بيني وبين فتى سوري خرج من سورية منذ عشرة أعوام عندما كان في الثامنة من عمره،
سألني: هل تعتقد أن السوريين يمكن أن يصيروا شعباً متحضراً وأن يبنوا دولة متحضرة في يوم من الأيام؟
أجبته: نعم أوقن بذلك
قال لي: أنا أعتقد أنا هذا مستحيل
سألته: لماذا؟
أجابني: انظر إلى السوريين! في مناطق النظام الكثيرون منهم لا يزالون يؤيدون النظام المجرم، وفي المناطق الخارجة عن سيطرته هم متفرقون مختلفون لا يستطيعون الاجتماع على كلمة واحدة ويسيطر عليهم الفساد والأنانية، الشعب السوري متخلف فاسد يظلم بعضه بعضاً
قلت له: ألا يوجد في مناطق النظام مخلصون يعملون بصمت ويتمنون زوال هذا النظام؟
قال لي: نعم ولولاهم لما استطاع الناس البقاء
أضفت: ألا يوجد في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام مخلصون يريدون مصلحة البلد والشعب، أم الكل أناني وفاسد ومرتهن؟
قال لي: لا يخلو الأمر من الناس الجيدين
قلت له: إذن يوجد في السوريين من هؤلاء وهؤلاء ولا يمكننا القول إن الشعب السوري بأكمله فاسد لا خير فيه
ثم سألته: هؤلاء أصحاب المواقف والتصرفات السيئة هل ولدوا سيئين أم اكتسبوا السوء بعد ذلك؟
أجابني: لا أحد يولد سيئاً
قلت له: إذن السوء الذي تراه عند بعض السوريين بغض النظر عن عددهم هو أمر مكتسب نتيجة ثقافة وبيئة عاشوا فيها وليس أمراً وراثياً لا انفكاك منه، والثقافة والبيئة يمكن أن تتغير وهذا ما يجب أن نعمل عليه
ختمت بالقول: عندما أقول لك أنا متيقن من أن السوريين يمكن أن يصبحوا شعباً متحضراً ويبنوا دولة متحضرة، أنطلق من حقيقة دينية مستمدة من إيماني بالله وعدله وكماله وأنه لا يمكن أن يطالب الناس بالخير دون أن يخلق في نفوسهم استعدادات متساوية للخير والشر (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)
أنا أنظر إلى السوري وكأنه بذرة لزهرة جميلة، هذه البذرة إن أحطتها بالظلام والجفاف تظل بذرة قاتمة صغيرة، وإن وفرت لها التربة والنور والماء والغذاء تتحول إلى زهرة تفيض جمالاً وألواناً وعطراً
الاستبداد يحيط هذه البذرة بالظلم والظلام لتبقى على حالها وليستأثر هو بكل شيء، أما نحن طلاب الحرية والكرامة فمهمتنا أن نؤمّن لهذه البذرة الأجواء المناسبة من حرية وتوعية وبناء قدرات وتنظيم اجتماعي وسياسي حتى تصبح سورية حديقة غناء في يوم من الأيام
الصورة أدناه لبعض البذور وللأزهار التي تتفتح منها
قالوا: إن أردت أن تسير سريعاً امض وحدك وإن أردت أن تسير بعيداً امض مع آخرين
أضيف إليها: وإن أردت ألا تسير إلى أي مكان هذا شأنك لكن لا تجعل شغلتك في الحياة انتقاد السائرين
بمجرد أن تتشكل مشاعر سلبية في نفوسنا تجاه شخص ما لأي سبب كان، تتحول هذه المشاعر إلى نظارة مشوهة لا ترينا إلا سلبياته وتحجب عنا إيجابياته، أو تكبر سلبياته وتصغر إيجابياته، يحرمنا ذلك من التعامل الموضوعي مع هذا الشخص والاستفادة من إيجابياته سواء كانت أفكاراً أو صفات أومهارات أو علاقات
الحل هو أن نبتعد إلى الخلف قليلاً ونفصل مشاعرنا عن تفكيرنا ونعمل المحاكمة المنطقية الباردة المجردة من المشاعر في تقييم هذا الشخص وما يصدر منه، 1+ 1 = 2 هي عبارة صحيحة سواء صدرت من شخص أميل إليه أو أنفر منه
نجاحنا في هذه الأمر يمنحنا فرصاً كبيرة في الاستفادة من كل الإمكانيات المحيطة بنا وتحقيق الأهداف التي نسعى إليها من خلال التفاعل مع الآخرين
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) صدق الله العظيم
في حوار مع فتى خرج من سورية قبل عشرة أعوام عندما كان في الثامنة من عمره سألني: : ألم يكن من الأفضل ألا تقوم الثورة؟
أجبته: هناك قوانين ربانية تحكم هذا العالم، منها أن الشعوب عندما تحكم بأنظمة قمعية فإنها تثور في نهاية المطاف، لأن التوق إلى الحرية والعيش الكريم فطرة زرعها الله في النفس البشرية ولا بد لهذه الفطرة أن تعبر عن نفسها طال الوقت أم قصر مهما مورس عليها من قمع وكبت، فالله خلق البشر ليعيشوا بكرامة لا ليعيشوا أذلاء مهانين، وإرادة الله هي التي تتحقق في نهاية المطاف وليست إرادة الطغاة، لذلك قامت الثورات ضد الأنظمة القمعية في أمريكا الجنوبية في الثمانينات من القرن الماضي، ثم انتقلت إلى أوربة الشرقية في التسعينيات، ثم وصل تساقط الأنظمة الشمولية إلى الاتحاد السوفيتي نفسه فانهار بعد أن كان أعظم دولة على وجه الأرض، ثم وصلت موجة الحرية إلى المنطقة العربية عام 2011 بداية بثورة تونس فنحن نعيش جزءاً من تطور يشمل البشرية كلها وما كان للثورة ألا تقوم لأنها نتيجة طبيعية لأي نظام يشبه نظام الأسد وفق القوانين الإلهية وبالتالي سؤالك: ألم يكن من الأفضل ألا تقوم الثورة؟ كمن يسأل من يفلت قلماً من يده فيسقط إلى الأسفل وفق قانون الجاذبية: ألم يكن من الأفضل أن يتجه القلم إلى أعلى؟!
إلى كل من يضع صورة اوتستراد عريض أو مطعم فاخر أو منشأة حديثة للدلالة على التطور في مناطق الشمال، أذكره بأنه قبل الثورة كانت هناك طرقات معبدة ومطاعم فاخرة ومنشآت حديثة وكانت الكهرباء تصلنا على مدار الساعة، لكن الإنسان كان بلا كرامة وهذا سبب قيام الثورة
احترام كرامة الإنسان هو مقياس التطور وليس عرض الطرقات ولا عدد المطاعم، ومؤشرات احترام كرامة الإنسان واضحة: قانون يسري على الجميع وقضاء عادل يخضع لحكمه القوي والضعيف، حكم مدني قراره مستقل لا وصاية لجهة داخلية أو خارجية عليه ولا يعين فيه الناس وفق الولاء بل وفق الكفاءة، حرية الإعلام وحرية التنظيم المدني والسياسي، حرية التعبير فلا شخص ولا جهة فوق النقد والتقييم والمساءلة والمحاسبة
هذا هو مقياس التطور الذي قامت من أجله الثورة السورية وقدمت كل هذه التضحيات، لم يخرج الناس من أجل اوتسترادات أو كهرباء أو مرافق خدمية أو ترفيهية، كلها كانت موجودة عند النظام!
عندنا طاقات عظيمة مهدورة وفرص أعظم للتشبيك بينها ضائعة، كل ذلك بسبب ضعف تواصلنا مع أنفسنا أولاً ثم مع بعضنا البعض
تنظيم حياة الناس وصنع نموذج حكم رشيد إلى أن تنتهي الحرب بيننا وبين النظام أمر مطلوب، لكن بناء (دولة) قبل الوصول إلى الدولة التي ينشدها جميع السوريين خطأ استراتيجي جسيم وهو يصرفنا عن الهدف الأساسي في هذه المرحلة وهو التخلص من النظام المجرم وطي صفحة الاستبداد من تاريخ السوريين
(الكيان السني) في الشمال سيكون وبالاً على سنة سورية وليس خلاصاً لهم، نريد كياناً وطنياً يضم جميع السوريين، كياناً يأخذ فيه السنة حقهم الذي يتناسب مع عددهم وتاريخهم،ولا شك أنهم سيأخذون هذا الحق عندما يفقهون العصر والعالم الذي يعيشون فيه ويثبتون أنهم أهل للمسؤولية التاريخية الملقاة على أعتاقهم كحامل أساسي لأي مشروع وطني قادر على جمع كل السوريين
ليت من بيدهم الأمر في ادلب يدركون وقبل فوات الأوان أن هذه سورية، وأن سورية ليست غزة ولا الضاحية الجنوبية ولا أفغانستان!
في أي صراع .. إذا وجدت إرادة المواجهة استخدم العقل ذكاءه في ابتكار ألف طريقة للمواجهة
وإذا انعدمت إرادة المواجهة استخدم العقل نفس الذكاء في ابتكار ألف مبرر للانسحاب
(كالنحت في الصخر) عبارة تستخدم للدلالة على صعوبة أمر ما لكنها تحمل دلالات أخرى
صحيح أن النحت في الصخر يستغرق وقتاً وجهداً ويتطلب مثابرة وصبراً لكنه يحول صخرة صماء لا ملامح لها إلى عمود شاهق يرتفع عليه بناء عالي الأركان أو إلى قطعة فنية تعيش لآلاف السنين ولا تمحوها الظروف الخارجية من حر وقر ورياح
تغيير الوعي الجمعي ليكتسب مناعة ضد الظلم والاستبداد وضد التعصب الأعمى للعشيرة أو للمنطقة أو لغيرها وضد ما سوى ذلك من أمراضنا الاجتماعية والأخلاقية والفكرية هو كالنحت في الصخر يتطلب جهداً مستمراً تراكمياً لا نرى كل آثاره في أعمارنا المحدودة لكنه يحدث تغييراً جوهرياً في المجتمع لا عودة عنه، تغييراً لا تمحوه الظروف الخارجية سواء كانت مستبداً داخلياً أو مستعمراً خارجياً
في معتقدي أعظم ما يُتعبد به الله دفع الظلم عن الناس بتمكين الناس حتى يستطيعوا دفع الظلم عن أنفسهم
الثورة ليست معركة تنتهي بنصر أو هزيمة
الثورة طريق نمهدها بدمائنا لتعبر عليها الأجيال إلى غدٍ أفضل
في بداية الثورة قال لي أحدهم: من أين أتيتم بشعار (الحرية)؟ هذا شعار غير إسلامي، جئني بآية واحدة في القرآن وردت فيها كلمة حرية!
أجبته: الحرية موجودة في العبارة التي يدخل فيها الإنسان في الإسلام (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لا إله إلا الله تعني أن بشار الأسد ليس إلهاً يعيش فوق النقد والمحاسبة والمطالبة بالعزل عندما يظلم ويقتل، وهذا هو مقصد السوريين الأحرار عندما يهتفون (حرية)
واليوم أقول: لا إله إلا الله تعني أن الجولاني ليس إلهاً وأبو فلان وأبو علان من قادة الفصائل ليسوا آلهة
هؤلاء ليسوا آلهة ندين لهم بالطاعة المطلقة بل بشر مثلنا ننتقدهم ونحاسبهم ونطالب بعزلهم إن لم يلتزموا بالحق
الطاعة للحاكم في ديننا ليست طاعة مطلقة بل طاعة تعاقدية مشروطة بأن يحكم فينا بالقسط أي بالعدل
القسط الذي أرسل الله الأنبياء لإقامته في الأرض (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
القسط الذي أقام الله عليه بناء الكون وبناء الحضارة الإنسانية (السَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)
القسط الذي خلق الله السموات والأرض على أساسه (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) حيث فسر معظم العلماء الحق هنا بالقسط
في ديننا الطاعة للحاكم عقد مشروط بيننا وبينه وشرطه أن يحكم فينا بالعدل فإذا أخل بهذا الشرط أصبحنا في حلٍّ من العقد وأصبحت معصية الحاكم واجباً شرعياً وفي الحديث النبوي الصريح أنه لا تجوز الطاعة إلا في المعروف حتى للأمير في ساحة الحرب
عن علي رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا : بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضاً، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف)" صحيح البخاري
لا إله إلا الله تعنى أن الخضوع المطلق لله وحده، أما الحاكم فبشر مثلنا يُنتقد ويُحاسب ويُستبدل، فأي حرية سياسية أعظم من الحرية التي تشتمل عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) التي بها يدخل الإنسان في الإسلام؟
عندما ينتشر هذا الفكر في الأمة يصبح همّ الحاكم كيف يكسب عقول الناس وقلوبهم بعدله وكفاءته لا كيف يكمّ أفواههم ويُخضع رقابهم بسيفه!
هذا هو الفكر الديني السياسي الثوري الجديد الذي يجب أن ينتشر في الأمة وإلا سنظل قطيعاً يُسلم رقابه لطاغيةٍ بعد آخر جيلاً بعد جيل
للتذكير، خرجنا بثورة حتى لا يكون مصيرنا شعباً وبلداً معلقاً بمصير شخص واحد وبقرارات هذا الشخص وصفقاته ومغامراته ونزواته ومصالحه، كائناً من يكون!
أنا كمسلم مشكلتي مع الاستبداد الديني أكبر من مشكلتي مع الاستبداد بعيداً عن الدين
لأن المستبد يكرّه الناس به فقط
أما المستبد باسم الدين فيكرّه الناس به وبالدين معاً
الحاكم بأمر نفسه يتميز بالانتشاء بخمر قوته وبالشبق إلى السلطة والنفوذ
انتشاؤه وشبقه يمنحانه جرأة عجيبة وبراغماتية واسعة تمكنانه من تحقيق انتصارات سريعة
تسكره انتصاراته وتزيد من شبقه إلى السلطة والنفوذ فيبدأ بارتكاب الأخطاء بدون رادع لأنه حاكم بأمر نفسه
وهكذا تتحول جرأته وبراغماتيته اللتان كانتا سبباً في صعوده إلى سبب في هبوطه
إلى أن يسقط .. ليس وحده للأسف ولكن بعد أن يجر بلداً بأكمله إلى الخراب
والتاريخ مليء بالأمثلة
يقول المثل الشعبي : لكل قمحة مسوسة كيال أعور ..
عندما ينتشر العور الفكري في المجتمع تزداد قدرة الاستبداد على تسويق قمحه المسوس
لا حل إلا بالتوعية وتفتيح البصائر مهما استغرق ذلك من وقت وجهد
لو كنا نعتقد أن الشعب السوري لا يستحق إلا إحدى الخيارين: الفاسد أو الأفسد لما خرجنا بثورة!
الشعب السوري يستحق الخيار الثالث وهو الحياة الحرة الكريمة وإذا كنا لم ننجح حتى الآن كنخب سياسية وفكرية في صنع النموذج الذي يحقق هذه الحياة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام فهذه مسؤوليتنا وعلينا أن ندرس جوانب قصورنا وأسباب فشلنا ونستخلص الدروس والعبر ونتابع السعي لصنع هذا النموذج بدل النكوص على أعقابنا والتخلي عن مبادئنا وإقناع السوريين بأنهم لا يستحقون إلا إحدى الخيارين الفاسد أو الأفسد
الشعب السوري أكرم وأشرف وأنبل من أن نتركه فريسة لأحد هذين الخيارين، هو يستحق الخيار الثالث: الحياة الحرة الكريمة،
هذا ليس شعراً ولا تنظيراً بل مبدأ نعيش من أجله ونموت في سبيله
من تكتيكات الحرب ما يسمى (الانسحاب) أو (الانحياز) بالتعبير القرآني وذلك عندما تعجز عن المواجهة فتنسحب تخفيفاً للخسائر بانتظار ظروف أفضل (تنتظرها أو تصنعها) حتى تتابع المعركة
عندما أتأكد من عدم قدرتي على مواجهة الظالم أنسحب وأجلس في بيتي منتظراً مرور العاصفة، هذا أفضل ألف مرة من أصبح جزءاً من مشروعه، وأخدع نفسي قائلاً بأنني أستغله لخدمة مشروعي
التحالف مع الظالم نصرة لقضية عادلة ليس ذكاء تكتيكياً بل غباء استراتيجي فاقع، وهو وإن حقق مكاسب ظرفية لأصحابه على المدى القصير إلا أنه ينزل بهم خسائر فادحة على المدى الطويل أهمها أنهم يخسرون مصداقيتهم ومكانتهم في قلوب الناس وعقولهم
ليس أدل على أن المنظومة التي تنتقدها هي منظومة طاغوتية تعادي مبادئ الثورة من قول الناس من حولك (الله يحميك)
عندما يأتي اليوم الذي لا يسمع فيه السوري الذي يقول كلمة الحق (الله يحميك) عندها تكون الثورة حققت أهدافها
"لا قيمة لرأيك في تغيير الواقع فلا تضيع وقتك بالتعبير عنه، الذي يغير الواقع هو البندقية، من يملك البندقية الأقوى هو من يفرض رأيه في نهاية المطاف" وبالتالي:
أن يحشد الناس أنفسهم للمطالبة بحقوقهم من خلال المظاهرات والاعتصامات وتوقيع العرائض وغيرها من أدوات التحشيد والمناصرة هذا لا قيمة له، طالما لا يملكون البندقية،
أن يجمع الناس أنفسهم في نقابات وأحزاب ومنظمات تدافع عن حقوقهم، هذا لا قيمة له، طالما هذه التجمعات لا تملك البندقية)
هذا هو الفكر الذي يحتاجه أي مستبد يريد للناس أن يصمتوا وييأسوا ويستسلموا لبندقيته!
هل يعني ذلك أننا لا نحتاج للبندقية للدفاع عن حقوقنا؟ لا أبداً نحن بحاجة إلى البندقية ، ولكن أي بندقية؟!
هل هي البندقية التي تحمي مصالح المشاريع الخاصة لمن يحملونها وتقمع كل صوت مخالف؟ أم البندقية التي تحمي مصالح الناس وإرادتهم؟
وهنا الكرة في ملعب الناس وبالتحديد في ملعب أصحاب القلم والفكر والسياسة ليوعوا الناس ويمكنوهم من تنظيم أنفسهم حتى يفرضوا أنفسهم على البندقية بدل أن تفرض نفسها عليهم
أقول لمن يسخر من قيمة التنظيم والتحشيد والأشكال السلمية من الاحتجاج والمطالبة بالحقوق بحجة أن الكلمة للبندقية:
ألم يكن بشار الأسد وهو في أوج قوته يخاف من مظاهرة طيارة في حارات دمشق ويلاحق ويعتقل من يقوم بها؟!
هناك فكر استسلامي ينتشر في (المحرر) يريد أن يعيدنا إلى قمقم الخوف والعبودية
أن يعجز التفكير الفردي عن حل مشكلة ما لا يعني عدم وجود الحل، تصوراتنا الفردية تكون أحياناً قاصرة عن إيجاد الحلول وخصوصاً عندما تكون المشكلة معقدة
التفكير الجماعي بالمشكلة يعطي فرصة أفضل لايجاد الحلول لأنه يؤدي إلى تشخيص المشكلة بشكل أدق من خلال النظر إليها من جميع الزوايا، ولأن تبادل الأفكار وتلاقحها وتطويرها بشكل جماعي من قبل عقول لها مهارات وتجارب مختلفة يؤدي إلى ولادة أفكار جديدة لا يمكن أن ينتجها عقل بمفرده مهما بلغ من المعرفة والخبرة
يحتاج ذلك أن نصبر على الاستماع لبعضنا البعض مهما اختلفت الآراء وأن نمتلك المرونة الكافية لتغيير أفكارنا عندما تظهر لنا أفكار أفضل
(ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً)
تحدد هذه الآية المعيار الأخلاقي لتقييم من يقوم بالقتل، الجرم واحد
لا فرق بين من يقتل واحداً أو يقتل ألفاً،
لا فرق بين قاتل سني وقاتل علوي،
لا فرق بين قاتل يرفع علم الثورة وقاتل يرفع علم النظام،
لا فرق بين قاتل يبرر القتل بالحفاظ على (شوكة المسلمين) وقاتل يبرره بأي سبب آخر،
التخلي عن المعيار الأخلاقي القرآني جعلنا ننقض مبادئ الثورة التي خرجنا من أجلها (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً)، وجعل أشباه المجرمين الذين ثرنا عليهم يعودون ليتسيدوا أمرنا ويتسلطوا علينا
ما زال التصحيح والاستدراك ممكناً أو يستبدلنا الله بمن هم أصدق منا!
في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم تحضرني قصتان تبينان كيف تعامل الرسول مع صحابته وما الثقافة التي رسخها بينهم،
القصة الأولى: عندما اختار الرسول مكان نزول الجيش في غزوة بدر سأله الصحابة (أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة)
ما كان الصحابة ليتجرأوا على هذا السؤال لولا أن الرسول ربى رجالاً يحترمون نعمة التفكير ولا يبيعون عقولهم لأحد ويميزون بين الوحي المقدس والرأي البشري الذي لا قدسية له ويحتمل الخطأ والصواب ولو كان رأي الرسول نفسه! وهذه ثورة بحد ذاتها في تحرير العقول من العبودية إلا لله
القصة الثانية: في بدر أيضاً عندما نغز الرسول صلى الله عليه وسلم بعصاه أحد الصحابة وهو يسوّي الصفوف للمعركة فقال له الصحابي: (يا رسول الله أوجعتني فأقدني) أي أريد القصاص منك، فما كان من الرسول إلا أن كشف بطنه ليقتص منه، فانكب عليه الصحابي مقبّلاً وهو يقول: (إنما أتوقع الشهادة وأردت أن يكون آخر عهدي بالحياة أن يمس جلدي جلدك)
تجرؤ الصحابي على هذا الطلب وعدم اعتراض أحد من الصحابة عليه يدل على أن الرسول ربى رجالاً لا يسكتون على ضيم ويرفضون الظلم ولو جاء منه عليه الصلاة والسلام ولم يربّ منافقين متملقين لا يقولون (لا) ولو على حساب كراماتهم
الثورات لا تغير البنى الفكرية والثقافية والأخلاقية في طرفة عين، هي تطلق عملية التغيير، هي تفسح هامش الحرية اللازم للتغيير، وعادة ما يبدأ هذا الهامش ضيقاً ويتسع بإطراد بمقدار حركة الناس ومبادرتهم وسعيهم
مثلاً، إذا كان النفاق جزءاً من ثقافة المجتمع لا يختفي بحدوث الثورة وإنما يأخذ أشكالاً جديدة، الثورة تتيح كشفه وتسليط الضوء عليه والقيام بالجهد الفكري والتنظيمي اللازم لمواجته فكرياً وعملياً
ينطبق هذا على كل أشكال الخلل الفكري والثقافي والأخلاقي من توظيف الدين لخدمة السلطة، إلى الفساد والمحسوبية، إلى المناطقية، إلى تقديس الزعيم، كلها عيوب بنيوية لا تنتهي بنزول الناس إلى الشارع ولا حتى بزوال النظام بل تأخذ أشكالاً جديدة، وهنا تتيح حرية التعبير والتنظيم كشف هذه العيوب ومقاومتها، لذلك كانت (الحرية) أول مطالب الناس أدركوها بفطرتهم السليمة من دون معرفة بقوانين التغيير وسنن الاجتماع، ولذلك يجب ألا نتهاون أبداً مع من يقمع حرية الناس في المناطق التي دفعوا فيها أغلى ما لديهم ليعيشوا أحراراً
التغيير يحتاج إلى وقت وقد يتعثر أو يبطئ نتيجة لنقص المعرفة والأدوات اللازمة للتغيير وهنا يصبح التعثر أو البطء فرصة للتعلم لا مبرراً للإحباط