الإسلام جاء ليحرر العقل لا ليقيده
قال تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) وأهم مظهر من مظاهر تكريم الإنسان هو تكريم العقل الذي أعطاه الله لهذا الإنسان وميزه به عن الحيوان، ومن تكريم العقل إفساح المجال له لكي يفكر ويجتهد ويحاور وينتقد ويكون مختلفاً عن الآخر فهذا حق لكل إنسان ومنع الإنسان من ممارسة هذا الحق هو منع له من ممارسة إنسانيته، أما من يبررون منع الآخرين من التفكير والاجتهاد بحجة الحفاظ على الأمة من الضلال فهم كمن يقول إن على الإنسان أن يغمض عينيه لأنه إذا فتحهما سيتعثر ويقع على أم رأسه! لقد خلق الله العينين لكي يفتحهما الإنسان ويرى بهما، وكذلك خلق العقل لكي يفكر به الإنسان لا لكي يعطله، ولست أضع العقل هنا بديلاً عن النقل بل أتحدث عن مراجعة ذلك الفهم الجامد للنقل الذي يمنع العقل من التفاعل مع النقل وإسقاطه على الواقع إسقاطاً يؤدي في النهاية إلى تحقيق مقاصد النقل. قد يجادلني البعض ويقول إن النقل قبل العقل وهنا أقول وهل يفهم الإنسان النقل بغير العقل؟ وقد يجادل آخرون فيقولون إن فتح باب الاجتهاد على مصراعيه قد يؤدي إلى الفوضى، وهنا أقول وأي فوضى أكبر من تلك الحالة التي تعيشها الأمة اليوم، وقد يتابع آخرون الجدال فيقولون إذا كانت الأمة تعيش في هذه الفوضى مع كل تلك الضوابط فمن الأولى الحفاظ عليها (أي على الضوابط) لأن الأمة بدونها ستعيش في فوضى أعظم! وكلام هؤلاء مبني على الافتراض الخاطئ الذي أوردناه في بداية المقال والذي يتناقض مع الكرامة التي أرادها الله للإنسان، ذلك الافتراض الذي يقول (إن الإنسان إذا أعمل عقله يضل وإذا أعمل عقله أكثر يضل أكثر!!) إن خالق العقل والنقل واحد وبالتالي لا يمكن لأمةٍ تؤمن بالنقل وتعمل عقلها في فهم النقل وإسقاطه على الواقع أن تصل في نهاية المطاف إلى غير المقاصد التي جاء الله بالنقل وخلق العقل من أجل تحقيقها
إنني لا أدعو إلى رفض ضوابط الاجتهاد التي وضعها الأولون جملة وتفصيلاً ولكني أدعو إلى رفع القدسية عن هذه الضوابط فهي نتاج جهد عقلي بشري قابل للنقد والتجديد، و لا يُفهم من كلامي أنني أقلل من قيمة آراء الأولين واجتهاداتهم فما جاءوا به في زمنهم كان يعتبر قمة في التجديد والإبداع، وأنا لا أدعو كما يفعل البعض إلى رمي التراث الشرعي وراء ظهورنا فحتى في العلوم الدنيوية عندما يريد الإنسان أن يبدع في مجال ما فإنه يبدأ بدراسة ما وصل إليه غيره في هذا المجال ثم ينقده ويأتي بالجديد أو يكمِّله و يبني عليه المهم أن لا نتوقف عند اجتهادات الأولين لأن اجتهاداتهم هي استجابات لتحديات الماضي ولا يمكننا أن نواجه تحديات الحاضر باستجاباتٍ من الماضي، كما لا يُفهم من كلامي أنني أدعو من هب ودب إلى الاجتهاد في أمور الدين فأنا لا أطمئن إلى من يجتهد في الطب إلا إذا كان طبيباً لديه على الأقل درجة دكتوراه في الاختصاص الذي يريد أن يجتهد فيه ويأتي بجديد، لكنني لا أفهم لماذا تحارب المؤسسة الشرعية التقليدية أي شخص يأتي بفهم جديد لم يأت به أحد من قبل لأمرٍ من أمور الدين ولو كان ذلك الشخص حاصلاً على أكثر من شهادة دكتوراه في العلوم الشرعية المختلفة
إنها لحقيقة مرَّة أن يتفق أسلوب الطغاة في الحجر على عقول الناس مع أسلوب بعض (العلماء) فكلاهما يسلط سيف الخوف على عقل الإنسان، الطاغية يسلط على عقول الناس سيف الخوف من (الفوضى السياسية) إذا تُركت لهم حرية التفكير والتعبير والاختيار، وبعض (العلماء) يسلطون على عقول الناس سيف الخوف من (الفوضى الفكرية) إن هم فكروا أو ناقشوا أو جاءوا بجديد لم يأت به أحد من (السلف الصالح
والنتيجة مجتمعات تطاول فيها المآذن عنان السماء لكن نفوس الناس فيها ملتصقة بالأرض ترتعش خوفاً وتردداً ويسحقها الشعور بالعجز وانعدام القيمة
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي