إلى الحريصين على الأمن .. الخائفين من الموت والدمار
ما من إنسان طبيعي إلا ويتمنى أن يسود الأمن بلده فالحاجة إلى الأمن هي أعمق الحاجات الإنسانية والسنن الإلهية تقول إن الأمن يسود المجتمعات الإنسانية عندما تصل هذه المجتمعات إلى صيغ تتعايش فيها مكوناتها فلا يلغي أحدٌ أحداً ولا تشعر أي فئة في المجتمع أنها مهمَّشة أو مظلومة ويتحقق ذلك بالحوار والتفاهم والتكامل بين مكونات المجتمع المختلفة. إن المجتمعات التي يسود فيها (الأمن الظاهري) نتيجة القهر واستخدام القبضة العسكرية المخابراتية يكون فيها هذا (الأمن الظاهري) مؤقتاً و(المؤقت) في حياة الشعوب لا يعني أسابيع أو شهوراً وإنما يعني أعواماً أو عقوداً قد تطول أو تقصر لكنها بالتأكيد لا تستمر (إلى الأبد). عندما أقول إن الأمن الحقيقي والدائم في المجتمع تحققه العدالة التي تطال كل مكوناته وإن ذلك لا يتحقق إلا بالحوار والتفاهم والتكامل بين هذه المكونات فأنا هنا لا أقوم بتحليل سياسي وإنما أتحدث عن سنة من السنن الإلهية أي عن قانون من القوانين الثابتة التي وضعها الله في هذا الوجود والتي تنظم حركة العوالم كلها بما ذلك عالم الإنسان والمجتمعات البشرية. تعتمد الأنظمة الديكتاتورية في وجودها على دعم شريحة واسعة من الشعب لها وهي تجند كل ما لديها من وسائل التأثير لتقنع هذه الشريحة بأن النظام الديكتاتوري يحفظ لها أمنها وبالتالي يصبح أفراد هذه الشريحة غير مستعدين للتخلي عن هذا الأمن في سبيل قضية الحرية ولسان حال أحدهم يقول: ماذا ستفيدني الحرية إذا كانت ستأتي بوضع تقتلني فيه سيارة مفخخة أو مليشيا مسلحة، بعبارة أخرى كيف سأتمتع بالحرية إذا كنت ميتاً وهذا تفكير منطقي جداً لو كانت الحرية تأتي بالموت ولو كان الاستبداد يحفظ الحياة، لكن السنن الإلهية تقول إن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً فالاستبداد هو الذي يأتي بالموت والدمار للمجتمعات التي يحكمها النظام المستبد. كيف ذلك؟ تدل التجارب التاريخية على أن المستبدين يأخذون مجتمعاتهم إلى الدمار بأسلوبين إما بزج هذه المجتمعات في حروب خارجية لا تصب في مصلحتها وإنما تصب في مصلحة هؤلاء المستبدين وتشبع غرورهم وأحلامهم المريضة أو بزج هذه المجتمعات في حروب أهلية نتيجة تضارب المصالح بين مكونات المجتمع بسبب تعطيل النظام الديكتاتوري للعملية السياسية التي تؤدي إلى التوافق بين هذه المكونات. إذن الدولة التي يحكمها النظام المستبد هي سائرة حتماً إما إلى حرب أهلية أو إلى مغامرة عسكرية خارجية خاسرة أو إلى الاثنين معاً وهذه الحتمية تأتي من اجتماع خمسة عوامل
1- النظام الديكتاتوري يعتمد على البيروقراطية والروتين ويجمع الصلاحيات في يد مجموعة قليلة من الأفراد وهذا يحد من قدرة النظام على التأقلم السريع مع الظروف الخارجية والداخلية الجديدة
2- خوف الأتباع من إغضاب قادتهم سوف يحملهم على نقل صور ناقصة إليهم أو حجب بعض المعلومات عنهم مما يؤثر على صواب القرارات التي يتخذها هؤلاء القادة
3- بما إن النظام الديكتاتوري يعتمد على أشخاص يقدمون مصالحهم الشخصية على أي اعتبارات أخلاقية أو وطنية فلا بد أن يأتي اليوم الذي تتضارب فيه مصالح هؤلاء الأشخاص مع بعضها البعض مما يؤدي إلى صراعات داخلية ويزعزع الثقة بين أركان النظام وهذا بدوره سيحد من فعالية النظام بالتدريج وسيؤدي في النهاية إلى انهياره
4- تخلق الأنظمة الديكتاتورية فروقاً طبقية ومناطقية في المجتمع، هذه الفروق تزداد بمرور الزمن مما يولد صراعات فيما بينها يعجز النظام عن احتوائها
5- عندما يتم اتخاذ الكثير من القرارات من قبل القليل من الأشخاص يزداد احتمال ارتكاب الأخطاء في المحاكمات والقرارات والأفعال
مزيج هذه العوامل الخمسة سيأخذ المجتمعات التي يقودها النظام الديكتاتوري إلى الهاوية. السؤال هنا: ألا يمكن للمجتمعات أن تنجو من هذا المصير؟ الجواب: نعم عندما ترفع صوتها عالياً مطالبة بالتغيير من الديكتاتورية إلى التعددية. رفع هذا الصوت يمكن أن يتم بعشرات الطرق وقد تحدثت عن بعض منها في مقالة مطولة عن المقاومة المدنية. هذه المقاومة نجحت فعلاً في تخليص الكثير من الشعوب من قبضة الاستبداد فقد غيرت المقاومة المدنية الأنظمة الديكتاتورية في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبولندا ورومانيا، وفي صربيا غيرت الاعتصامات السلمية نظام ميلسوفيتش وفي أوكرانيا غيرت الثورة البرتقالية النظام الديكتاتوري هناك. بالمقابل هناك شعوب استكانت للنظام الديكتاتوري إلى أن نحرها على مذبح غروره وأخطائه وطغيانه وما العراق منا ببعيد
ليس عيباً أن يُساق شعبٌ ما إلى حيث لا يريد وهو صاحٍ يقاوم، لكن العيب كل العيب أن يُساق إلى مصرعه وهو نائمٌ مستسلم
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي