الألم اللذيذ
هناك نسبة لا بأس بها من الشعب السوري لا تصدق أن بإمكانها أن تبني دولة حديثة تقوم على المواطنة و على التساوي بين مواطنيها و على التعددية و التداول السلمي للسلطة و على سيادة النظام و القانون بحيث يكون أي مسؤول خاضع للقانون و للمسائلة و المحاسبة. هي تعتقد أن خللاً ما في تركيبتها العقلية و النفسية يجعلها غير مؤهلة إلا لتساق بالعصا، و أن الاستبداد هو قدرها الذي لا مفر منه، و أنها بين أمرين: إما الاستبداد أو الفوضى، و أن خيارها الوحيد إذا أرادت العيش بسلام و أمان هو الخنوع! ( بيروح الشبعان و بيجي الجوعان ) و ( ياللي بيتجوز أمي بيصير عمي ) و ( ياللي بتعرفو أحسن من ياللي ما بتعرفو ). هذا التصور هو النتيجة الطبيعية التي تتركها عقود من الاستبداد في نفوس الناس. فالاستبداد لا يحرم الإنسان الحرية و حسب بل يحرمه ما هو أغلى من الحرية؛ يحرمه عشق الحرية و التوق إليها.. الاستبداد لا يسلب الإنسان حقه في العيش بكرامة و حسب بل يسلبه ما هو أغلى من ذلك؛ يسلبه إيمانه بأنه يستحق العيش بكرامة
الاستبداد هو المرآة التي تعكس أقبح ما في الإنسان تعكس خوفه و ضعفه و عجزه فالشعوب التي تخضع للاستبداد عقوداً من الزمن ترى نفسها خائفة ضعيفة عاجزة .. الاستبداد يفعِّل في الإنسان كل ما قبيح و دنيء و يعطل فيه كل ما جميل و نبيل.. الاستبداد يزعزع ثقة الإنسان بنفسه و بعقله و بأخلاقه و بإنسانيته و بكل شيء
و لأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، خلقه جميلاً عزيزاً حراً قادراً، و لأن ما منحه الله للإنسان لا يستطيع أي مخلوق أن ينزعه منه فإننا نرى عبر التاريخ أنه ما من شعب ظل خاضعاً للاستبداد إلى أبد الآبدين. نرى عبر التاريخ كيف تفرز الشعوب من رحم الاستبداد قيادات تؤمن بها و بقدرتها على العيش الحر الكريم، قيادات تثق بهذه الشعوب و تدفعها إلى الثقة بنفسها و تقودها في طريق الخلاص
إن العين التي اعتادت على الظلام لفترة طويلة يؤلمها النور عندما يلامس أجفانها أول مرة لذلك فإن الانتقال من ظلام الاستبداد إلى نور الحرية يصاحبه بعض الألم، إنه طعم الحرية المؤلم.. اللذيذ
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي