حرية العقل كشرط للإصلاح
الإصلاح في هذه الحياة عملية مستمرة لا تتوقف إلا بتوقف الحياة ذاتها. إنه مواجهة التحديات الجديدة باستجابات جديدة. إنه التفاعل المتجدد للعقل مع الواقع، ذلك التفاعل الذي ينتج وسائل متجددة تؤدي إلى إصلاح الواقع. والإصلاح لا يعني الانتقال من السيئ إلى الصالح وحسب بل يعني أيضاً الانتقال من الصالح إلى الأصلح ومن الأصلح إلى ما هو أصلح منه وهكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها
بما إن الإصلاح يحتاج إلى تفكير فإن العقل هو أداة الإصلاح الأساسية وعندما يُعطَّل العقل يتوقف الإصلاح. إن التفوق الياباني يعتمد على مبدأ بسيط يسمّى الكايزن وهي كلمة يابانية تعني التحسين المستمر أي إن كل شخص في المؤسسة من أصغر موظف فيها إلى أكبر موظف يسأل نفسه كل يوم السؤال التالي: هل هناك طريقة أفضل أؤدي بها عملي؟ وكلنا نعلم أن السلوك ينبع من التفكير وبالتالي فإن السؤال السابق يستبطن سؤالاً آخر: هل هناك طريقة أفضل أفكر بها تجاه عملي؟
لقد دخلت الأمة في سراديب الجهل والتخلف يوم سيطر الاستبداد على حياتها الفكرية والسياسية فأصبح كل من يجتهد ويخرج على المألوف ويأتي بالجديد يُحارب بدلاً من أن يُحاور ويرسل إلى زنزانة التكفير أو التفسيق أوالابتداع إن كان رأيه دينياً أو إلى زنزانة الحاكم إن كان رأيه سياسياً. إن التمسك بالقديم المألوف لا لسبب إلا لأنه قديم هو سلوك وصف الله تعالى الكافرين به
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (البقرة: 170
لقد تحولت ضوابط الاجتهاد التي وضعها الأولون إلى ثوابت دينية يعتبر كل من خرج عنها كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً، كما تحولت ضوابط العمل السياسي التي وضعها الحاكم إلى ثوابت وطنية يعتبر كل من خرج عنها خائناً أو عابثاً بأمن الوطن ووحدته واستقراره، وهكذا يأتي الإنسان إلى الحياة في مجتمعنا وكل شيء حوله (مضبوط). لقد سمّي العقل عقلاً لأنه يعقل الأمور أي يضبطها فإذا وجد الإنسان كلَّ شيء حوله (مضبوطاً) فما الحاجة إلى العقل إذن؟ إن الاستبداد الديني (أي محاربة الرأي الآخر بحجة الدفاع عن الدين) والاستبداد السياسي (أي محاربة الرأي الآخر بحجة الدفاع عن الوطن) كلاهما وجهان لعملة واحدة وينطلقان من نسق ثقافي واحد جوهره الوصاية على عقل الإنسان انطلاقاً من عدم الإيمان بأهلية هذا العقل وقدرته على الوصول إلى الصواب من خلال الاجتهاد والحوار
إن مقاصد الشريعة لا تتحقق إلا إذا تُرك المجال للعقل لكي يتفاعل مع النص الديني تفاعلاً حراً يكفل إسقاط هذا النص على الواقع بما يؤدي إلى تحقيق هذه المقاصد، هذا التفاعل لا يتم إلا في فضاء الحرية السياسية والفكرية حيث لا يدعي أحد الوصاية على عقول الآخرين وحيث الحجة تواجَه بالحجة وليس بسلاح التكفير أو التخوين، وعندما نتحدث عن الحرية هنا لا نعني الحرية المطلقة لأنها الجنون بعينه وإنما نعني الحرية المضبوطة ولكن من يضع ضوابط الحرية؟ وما هي منهجية وضعها؟ وما هي طريقة قياس صحتها؟ وكيف تتم مراجعة هذه الضوابط والمنهجية وطريقة القياس؟ أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة لا تتم من خلال أفراد وإنما من خلال مؤسسات فكرية (مراكز أبحاث) ومؤسسات سياسية (أحزاب) منعتقة من قيود (ما ألفينا عليه آباءنا) ومتحررة من كل أشكال الوصاية ولا تمارس أي شكل من أشكال القمع الفكري أو السياسي وإنما تتخذ الحوار والمنطق سبيلاً للاقتراب من الحقيقة، مؤسسات تضم أهل الاختصاص وتعتمد مبدأ الشورى في الوصول إلى قراراتها وتصوراتها، مؤسسات تبتعد عن العقلية التبريرية والتلفيقية ولا تلوك الأقوال بعيداً عن الواقع ولا تصدِّر الشعارات والمواعظ وإنما تجعل النتائج الملموسة التي ترتقي بواقع الأمة هي المقياس لصواب قراراتها وتصوراتها وتتبع التحسين المستمر في أساليب تفكيرها وعملها أي مبدأ الكايزن
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي