cover

حوار مع رجل أمن

الحوار الذي سأعرض بضعاً من نقاطه في هذه المقالة ليس حواراً تخيلياً وإنما هو حوار حقيقي حدث فعلاً بيني وبين أحد ضباط الأمن واستمر لمدة ثلاث ساعات ونصف وأريد أن أنوه في البداية أن استدعائي إلى أحد الفروع الأمنية لم يتم بسبب مقالاتي أو أفكاري وإنما لسبب تفصيلي آخر ليس من المفيد ذكره

لن أذكر نقاط الحوار بالترتيب الذي حدثت فيه فعلاً لكنني سأحاول توخي الدقة في عرض وجهات نظر الضابط ووجهات نظري المقابلة. ذكرت للضابط في بداية الحوار أن جوهر تفكيري السياسي يقوم على أن مستقبل سورية ووحدتها وأمنها واستقرارها وازدهارها يكمن في وجود نظام سياسي تعددي لا يحتكر فيه السلطة حزب واحد، أجابني الضابط وهو رجل مثقف بأن مصلحة الدولة تكمن في وجود الأحزاب وفي إعادة الحياة السياسية إلى البلد ولكن هذا الأمر يجب أن يتم بالتدريج وشرح لي كيف أن الدولة رخصت منذ عام 2001 لمئات الجمعيات المدنية وذلك لتدريب الناس على التجمع كخطوة تمهيدية لإنشاء الأحزاب وهنا ذكرت للسيد الضابط أن المواطن السوري اليوم – وبالرغم من وجود مئات الجمعيات - يشعر بالتهميش أكثر من أي وقت مضى، وهو يعتقد أن الأمن هو الذي يحدد المرشحين ومن سيفوز منهم  في أي عملية انتخابية وبالتالي فإن اليأس من العمل العام واللامبالاة والانسحاب من الحياة السياسية هو المزاج السائد في الشارع السوري وهذا المزاج لا يتغير إلا من خلال إفساح المجال للحريات السياسية والعمل السياسي ـ بشكل حقيقي وليس بشكل ظاهري ـ ولا يكفي مجرد السماح بالجمعيات المدنية التي يُشترط عليها أن لا تتدخل في السياسة لا من قريب ولا من بعيد. من الأمور التي ذكرها لي الضابط كمبرر لتجميد الحياة السياسية في البلاد هو الأزمة التي مرت بها سورية في أثناء الصراع المسلح مع الإخوان وكيف أن هذا الصراع شحن شرائح واسعة من المجتمع ضد الدولة وبالتالي كان لا بد من تفريغ هذه الشحن السلبي قبل السماح بالحريات السياسية وكان جوابي: ألم ينتهِ هذا الصراع منذ عقد ونصف؟! وإلى متى سيظل مستقبل سورية رهينة لماضيها؟! حدثني الضابط كيف أن الدولة نجحت من خلال السماح بالمد الديني الأفقي تحت سمعها وبصرها في سحب البساط من الجماعات المتطرفة وفي عدم توفير الحاضن الاجتماعي الذي يمكن أن يدعم الإرهاب وهنا ذكرت له نقطتين: أولاً، إن هذه الرعاية (الأبوية) التي توفرها السلطة للنشاط الديني في سورية قد أفرز طبقة من المشايخ الذين تغلب عليهم صفة النفاق والتملق للسلطة وبدلاً من أن يكون الدين رمزاً للصدق وقول الحقيقة أصبح رمزاً للكذب والنفاق، قلت للضابط: أنتم أفقدتم الدين بعده الأخلاقي الذي لا يستقيم المجتمع إلا به وأبقيتم على بعده الطقوسي والشعائري لذلك يوجد في سورية اليوم الكثير من مظاهر التدين (دروس ومجالس صلاة على النبي وحفظ قرآن وغير ذلك..) والقليل جداً من حقيقة التدين (الصدق في التعامل والشجاعة في قول كلمة الحق والالتزام بقانون الدولة وعدم ظلم الآخرين وعدم قبول الظلم من الآخرين وغير ذلك..) وهذا مرض اجتماعي خطير ساهمت السلطة في صنعه عن قصد أو غير قصد. النقطة الثانية التي أثرتها أمام الضابط هو أن هذا المد الديني الأفقي الذي يتم تحت سمع الدولة وبصرها يعتمد على شحن العاطفة الدينية أكثر من اعتماده على التفكير والحوار والنقد البناء للتراث الديني  وأن استكانة هذا المد للدولة ناجم عن الخوف منها وليس عن خطاب ديني تجديدي تنويري يقبل الآخر ويتعايش معه وبالتالي فإن أي تغير في موازين القوى في المجتمع يؤدي إلى إزالة الخوف قد يحوّل المد الديني باتجاه التطرف وشن حرب إلغاء على الآخر وخصوصاً أن بعض النصوص التي يتداولها أفراد هذا المد جاهزة لتبرير التطرف وإعطائه الشرعية وأن لا شيء يحمي التيار الديني من هذه الانعطافة سوى توسيع هامش الحريات في المجتمع وإفساح المجال لهذا التيار لكي يطور نفسه فكرياً وإعطائه الحق في العمل السياسي (تحت سقف الدولة المدنية الحديثة) ومعاملته بنديّة واحترام بدلاً من اتخاذه مطية

عند الحديث عن المعارضة في سورية ذكر لي الضابط أن هذه المعارضة ضعيفة جداً فالأحزاب المعارضة لا تضم في صفوفها أكثر من العشرات –حسب قوله - وهي لم تنجح في جمع بضعة أفراد للتظاهر أمام القصر العدلي... قلت للضابط: إن سبب ضعف المعارضة هو خوف الناس وأن سبب خوف الناس هو القمع الذي تمارسه السلطة وهنا قال لي: قد يكون الخوف هو أحد الأسباب ولكن هناك سبب أهم بكثير وهو أن المعارضة السورية فاقدة للمصداقية في نظر الشارع السوري - في رأيه - ولم يكن الوقت كافياً لأقول له: حتى لو افترضنا جدلاً أن أحزاب المعارضة فاقدة للمصداقية فالسبب هو تعطيل الحياة السياسية في سورية فالأحزاب تكتسب المصداقية من خلال اتصالها مع الناس والمشاريع التي تطرحها ومن خلال مشاركتها في الحياة السياسية وكل ذلك غير متاح في سورية

تعرضنا في الحوار إلى نقاط كثيرة لكني عرضت النقاط التي شعرت بأهميتها ومن الواضح أننا لم ننته باتفاق (ولم أكن أتوقع ذلك) لكن هذا الحوار هو مظهر من مظاهر الاختلاف الجوهري بين السلطة والمعارضة في سورية: السلطة لا تؤمن بالعشرين مليون سوري وبأنهم يستحقون أن يمنحوا حقهم في حرية الاختيار ونحن في المعارضة نؤمن بحق الشعب السوري في العيش الحر الكريم بعيداً عن وصاية الأجهزة الأمنية وعذراً من الضابط الكريم وشكراً له على حسن الضيافة

2007 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share