عبادة الفرد طريق المجتمعات إلى الدمار
كرم الله الإنسان بالعقل وميزه به عن بقية المخلوقات. مهمة العقل التفكير ومن أشكال التفكير ربط الأسباب بالمسببات والتنبؤ بالنتائج انطلاقاً من المقدمات والاعتبار بقصص الأمم والشعوب. إذا توقف عقل الإنسان عن التفكير فقد الإنسان أهم مكونات إنسانيته وأصبح كبقية المخلوقات يأكل ويشرب ويتناسل، لا قرار له بل يقرر عنه الآخرون، ولا إرادة له بل يريد له الآخرون، ولا كرامة له بل يستغله الآخرون ويركبونه للوصول إلى مآربهم كما يفعلون بالدواب تماماً {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 8)
يعرف الطغاة أن مجتمعاً يفكّر فيه الناس لا يمكن أن يخضع لهم ويرضى بظلمهم ويستسلم لشهواتهم وطغيانهم فيعلنون حربهم الشعواء على العقل منذ اليوم الأول الذي يستلمون فيه مقدرات البلاد، هذه الحرب تأخذ عدة أشكال منها منع حرية الكلام (الكلام هو وسيلة الحوار وإيصال الأفكار إلى الآخرين فإذا توقف الناس عن الكلام والحوار توقفوا عن التفكير!) وهكذا يحتكر الطغاة الإعلام المرئي والمقروء والمسموع لكي لا يُتاح الكلام إلا لهم ولأتباعهم، ويحجبون عن الناس ما يستطيعون حجبه من كتب وصحف ومجلات ومواقع الكترونية ولو استطاعوا حجب الفضائيات لما قصروا في ذلك، ويعاقبون المفكرين الأحرار ويزجون بهم في السجون لكي يرهبوا المجتمع ويخوفوه من ممارسة التفكير، وهكذا يدوس الطاغوت بحذائه العسكري الغليظ على عقول الناس فيسطِّحها فتجد تفكيراً سطحياً ومنطقاً أعوجاً وأشخاصاً لهم جسوم الرجال وأحلام العصافير
من أشكال تعطل التفكير عند بعض الناس دفاعهم عن الطاغوت بحجة أن (لا بديل عنه)، ولو فكر هؤلاء قليلاً ونظروا من حولهم لرأوا أن المجتمعات الحرة الحيّة لا تنهار إذا مات فيها الرئيس أو حدث له مكروه بل يأتي من يخلفه وتستمر الحياة بشكل طبيعي لأنها مجتمعات قائمة على مؤسسات وقوانين تحمي المجتمع وتصونه من الطغيان. عندما يتربع الطاغوت على رأس الحكم في مجتمع يضج بالحركة والحياة فإن أول عمل يقوم به هو تدمير كل أشكال الحركة والحياة في المجتمع وإفراغه من رجاله وأحراره وقواه الحية وأريد هنا أن أسوق (مع بعض التصرف) وصفاً علمياً دقيقاً لما تفعله الأنظمة الطاغوتية بالمجتمعات التي تحكمها، أورده الكاتب التونسي منصف المرزوقي في مقالة له منشورة على الموقع الالكتروني لقناة الجزيرة، يقول الأستاذ منصف
إن النظام الاستبدادي قائم برمته على عبادة شخصية الدكتاتور وأن هذا الأخير بحاجة إلى أعوان تنفيذ لا لشركاء، إنه لا يتحمل من يعارضه فما بالك بمن يهدد هيمنته المطلقة ومنها مصادرة كل الفضائل الشخصية
لا غرابة أن تنطلق حال وضع أسس النظام الاستبدادي تصفية كل الشخصيات القوية الحاملة لوظيفة النقد البناء والقادرة على لعب دور البديل في كبرى الأزمات
على العكس يقع تقريب وإعلاء كل من فهموا أن المطلوب هو الولاء وليس الكفاءة. هكذا تقع على امتداد السنوات عملية معاكسة لعملية النشوء والارتقاء في عالم الطبيعة، حيث يتم اصطفاء الأكثر طمعاً وجبناً ونفاقاً وانتهازية أي الأردأ على حساب الأشجع والأشرف والأكثر جدية ووطنية وكفاءة
تمتلئ شيئا فشيئا كل مراكز القرار بأناس لا يستمدون وجودهم لا من كفاءتهم ولا من تفويض شعبي وإنما من قدرتهم على تملق الزعيم الأوحد والتكيف بمزاجه وأهوائه
لنلخّص أهم خصائص هذا النظام السياسي الطاغوتي
- هو نظام نزف كلّ ما فيه من شرعية وهيبة ومصداقية ومات في العقول والقلوب
- هو نظام في قطيعة تامة مع المكونات الحية للمجتمع، وفي صراع دائم معها من منطلق أن أحسن ما في المجتمع لا يقبل أن يستبدّ به أسوأ ما فيه
- هو نظام يخلط بين العنف والقوة، حيث يبدو كجيش احتلال داخلي أصبحت مهمته حماية الجريمة المنظمة من المجتمع لا حماية المجتمع من الجريمة المنظمة
4.هو نظام غير قادر لطبيعته على التجدد من داخله بل على العكس حيث تجبره هذه الطبيعة على التحول من سلطة الحزب إلى سلطة مراكز القوى فإلى سلطة العصابات
5.هو نظام لا مخرج له غير الهرب إلى الأمام في ميادين التزييف والقمع وتوسيع دائرة الفساد لتصبح طبقة في حد ذاتها تدافع عن وجودها بكل الوسائل، وهو ما يرفع تدريجياً من منسوب العنف داخل المجتمع إلى حد الوصول به يوماً إلى حالة الحرب الأهلية
إلى هنا انتهى الاستشهاد بكلام الأستاذ منصف المرزوقي
إذن بدلاً من أن نقدم خدمة مجانية للطاغوت بنشر ثقافة تبرر وجوده وتطيل بقاءه بحجة أن (لا بديل عنه)، علينا أن نسعى إلى نشر ثقافة مضادة تذكر الناس بأن وطناً دُمّرت طاقاته ومؤسساته وقواه الحية وأُفرغ من رجاله وأحراره وقادته ومفكريه بحيث أصبح بقاءه رهينة ببقاء شخص واحد هو وطن عرضة للدمار القريب ما لم يسع أبناءه إلى تخليصه من قبضة ذلك الطاغوت وكل كلام غير ذلك هو دفن للرؤوس في الرمال تماماً كما يفعل ذلك الحيوان ذي الجسد الضخم والعقل الصغير أقصد النعامة
من لم يستطع أن يقول هذا الكلام علناً فليقله في نفسه وليصمت بدلاً من أن يؤيد المنكر بلسانه (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) حديث شريف
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي