اسرائيل المذعورة من الديمقراطية
ما إن ن هام ديكتاتور تونس المخلوع على وجهه في السماء هارباً من شعبه الأبي حتى التأمت الرؤوس السياسية والأمنية في النظام الصهيوني في اجتماعات عاجلة ومتلاحقة تدرس ما حدث في تونس وكيف يمكن تدارك تداعياته الخطيرة على الكيان الصهيوني. فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرنوت" أن الحكومة الإسرائيلية عقدت بعد سقوط الديكتاتور مباشرة مشاورات مع وزراء وقادة الأجهزة الأمنية حول الوضع في تونس حيث تابع المستوى السياسي الصهيوني بتخوف ما يجري فيها، وأوضحت الصحيفة العبرية نقلاً عن أوساط دبلوماسية إسرائيلية قولها إنها رأت أن ما جرى في تونس يعتبر ضوءاً أخضر لشعوب عربية أخرى بالتحرك ضد السياسات العربية القائمة في الكثير من الدول التي تمر بحالة من الفقر المدقع وانعدام الديمقراطية والحريات العامة. هذا القلق الصهيوني من انتشار الديمقراطية في العالم العربي لم يولد مع سقوط ديكتاتور تونس بل هو قلق مزمن لازم الدولة العبرية منذ نشوئها، ففي تاريخ 10/10/2005 كشف تلفزيون الكيان باللغة العبرية تفاصيل اجتماع عقده رئيس وزراء الكيان الأسبق (آرئيل شارون) وعدد مقلص من وزرائه مع كبار قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حول تصور العلاقات المستقبلية مع العالم العربي. حيث كان من اللافت أن هناك إجماعاً بين (شـارون) وقادة أجهزتـه الأمنيـة على إنـه من مصلحـة الكيان الإبقاء على أنظمـة الحكم الشـموليـة في العالم العربي. ليس هذا فحسب، بل إن المجتمعين توصلوا إلى استنتاج مفاده أن التحول الديمقراطي في العالم العربي، وبالذات في الدول التي تُحيط بالكيان المحتل، سيُفاقم المخاطر الإستراتيجية على وجود الدولة العبرية نفسها. المجتمعون الذين استمعوا إلى تصورات قدمها عدد كبير من المستشرقين الصهاينة وعدد من كبار قادة أفرع المخابرات الذين تعاطوا مع الشؤون العربية خلصوا إلى نتيجة مفادها: إن التحول الديمقراطي في العالم العربي سـيُفضي بالضرورة إلى وصول نُخب سـيكون من المسـتحيل على الدولـة العبريـة التوصل معها لتسـويات سـياسـيـة وفق بوصلـة المصالح الإسـرائيليـة
ويرى المستشرق (جاي باخور) الباحث البارز في مركز "هرتسليا متعدد الاتجاهات" في صحيفة "يديعوت أحرنوت"بتاريخ 18/01/2004: أن حقيقـة حرص الأنظمـة العربيـة الشـموليـة على موائمـة سـياسـتها مع السـياسـة الأمريكيـة طمعاً في البقاء، جعلها ترى في مغازلـة (إسـرائيل) والتودد لها بمثابـة "جواز السـفر" إلى قلوب صُناع القرار في واشـنطن! ويجزم (باخور) أن مبادرة أنظمـة الحكم العربيـة للتطبيع مع (إسـرائيل) تأتي فقط لعدم استناد هذه الأنظمـة إلى شـرعيـة الانتخابات، حيث أن كل ما يهم هذه الأنظمـة هو بقاؤها، وليـس مصالح شـعوبها
ويُشير الجنرال المتقاعد (داني روتشيلد)، الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" إلى حقيقة استفادة (إسرائيل) دوماً من حقيقـة حصر الأنظمـة الشـموليـة في العالم العربي اهتمامها فقط بالحفاظ على اسـتقرارها، وعدم ارتباطها بمصالح شـعوبها الوطنيـة والقوميـة. ويضيف في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية بتاريخ 23/07/2005: "الحكومات التي يتم فرزها ديمقراطياً تكون ملتزمـة بالعمل على تحقيق المصالح الإستراتيجية لدولها، لذا فإن هناك مصلحـة إسـرائيليـة واضحـة وجليـة في بقاء أنظمـة الحكم العربيـة الحاليـة". من ناحيته يرى الكاتب والمعلق السياسي الشهير (آلوف بن): "أنه ليس من مصلحة (إسرائيل) تحول العالم العربي نحو الديمقراطية وذلك لأن (إسرائيل) في هذه الحالة ستفقد خصوصيتها كـ "واحة" للديمقراطية في منطقة تحكمها الديكتاتوريات، وبذلك تفقد تل أبيب الحق في الزعم بأنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تربطها قواسم مشتركة مع حضارة الغرب
نعم إن إسرائيل ترى في سقوط الديكتاتوريات في العالم العربي خطراً وجودياً لأنها تعلم أن الشعب العربي لن ينجح في استعادة فلسطين حتى ينجح في استعادة حريته وكرامته .. وأن هذا الشعب لن يتعلم كيف يدافع عن فلسطين قبل أن يتعلم كيف يدافع عن نفسه في وجه من يستبيحون كرامته
إسرائيل تعلم أن الطريق إلى القدس لا يمر من عواصم عربية أسيرة يحكمها مستبدون قيدوا شعوبهم وحيّدوهم عن المعركة مع العدو الصهيوني، بل يمر من عواصم عربية حرّة تحكمها أنظمة تعبر عن إرادة شعوبها. إسرائيل تعلم أن أنظمة عربية أفرزتها انتخابات حرة نزيهة ستعرف كيف تطلق طاقات شعوبها وتوحد قوى هذه الشعوب في مواجهة الكيان الصهيوني وستعرف كيف تدير معركتها معه حضارياً وسياسياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً
لقد أثبتت ثورة الشعب التونسي أن الشعوب لا تسكت على الضيم إلى الأبد وأن الشعب العربي ليس استثناءً وأن الشعب العربي لا يعيش من أجل الخبز فقط بل يتوق إلى الحرية والكرامة كبقية شعوب الأرض، وأن القبضة الأمنية مهما كانت محكمة لا تضمن استمرار الأنظمة الاستبدادية وأن هذه الأنظمة مهما كانت غريزة البقاء لديها قوية ومهما كانت قدرتها على التكيف هائلة فإن ذلك لا يخلّدها وإنما قد يزيح قليلاً نقطة انهيارها على خط الزمن وأن الأنظمة الاستبدادية العربية مهما قدمت من فروض الطاعة للغرب وعملت على إقناعه بأن وجودها حاجة له فإن هذا الغرب لن يستطيع حمايتها من غضبة شعوبها المظلومة وسيتبرأ منها عندما تلفظها هذه الشعوب .. وسيكتب التاريخ كيف أن انقلاب عربة خضار محمّد بوعزيزي رحمه الله أدى إلى انقلاب عروش كرتونية لم تعرف الاستقواء إلا على شعوبها
21-1-2011