cover

الحرية = الانضباط

يبدو العنوان متناقضاً لأول وهلة، كيف تكون الحرية التي هي تحرر من القيود مساوية للانضباط الذي هو تقيد بضوابط معينة؟! من أهم الميزات التي ميز الله بها الإنسان عن بقية المخلوقات، ميزة الحرية، فالإنسان حر في اختيار عقيدته وسلوكه، ولولا الحرية لما كان هناك معنى للتكليف والابتلاء أو الامتحان الذي وصف الله به هذه الحياة عندما قال (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) فكيف يكون الامتحان منصفاً إذا لم يكن الإنسان حراً في كتابة الإجابات؟! إن ميزة الحرية هذه يمكن أن تكون فرصة للإنسان ليزكّي نفسه ويرتقي بها إلى عليين (قد أفلح من زكاها) وليسمو في أفعاله وأخلاقه ومشاعره، ولينطلق في بناء هذه الحياة وعمارتها فيصلُ بنفسه وبمن حوله إلى قمة الإنسانية ويصبح بحق ذلك الإنسان الذي سجدت له الملائكة إجلالاً واحتراماً، ويمكن أيضاً إذا أساء الإنسان استخدام حريته أن تنزل به إلى أسفل السافلين (وقد خاب من دساها) فيهبط في أفعاله وأخلاقه ومشاعره ليصبح أحط من الشياطين

يجب أن تقيد نفسك لكي تتحرر! فممارسة الحرية في أي مجال من المجالات يحتاج إلى انضباط، كيف ذلك؟ لا شك أننا جميعاً أحرار في ممارسة العزف على الناي، ولكم من منا يستطيع ممارسة هذه الحرية وعزف أجمل الألحان؟ فقط من (انضبط) بالتدريب على العزف وبذل وقتاً وجهداً في تعلم العزف هو الذي يستطيع ممارسة حريته في العزف على الناي؟ وقس على ذلك؛ نحتاج إلى الانضباط لكي نمارس حريتنا في الاستفادة من أوقاتنا على أحسن وجه، نحتاج إلى الانضباط لكي نمارس حريتنا في التعاون مع الآخرين والعمل بروح الفريق، بل نحتاج إلى الانضباط لنمارس حريتنا في مسامحة الآخرين والعفو عنهم؟ كلما كنا أكثر انضباطاً توسعت دائرة الحرية التي نتمتع بها

إذا كان الانضباط هو الذي يمكّننا من ممارسة حريتنا، فمباذا يجب أن ننضبط؟ يجب أن ننضبط بالأفعال التي تنسجم مع القوانين والسنن والإلهية، فـإذا كنت حراً في اختيار أفعالك فأنت لست حراً في اختيار نتائج هذه الأفعال لأن القوانين والسنن الإلهية هي التي تحدد هذه النتائج، أنت حر في أن تقفز من الطابق العاشر ولكنك لست حراً في اختيار نتيجة هذا الفعل وهي تحطم جمجمتك لأن قانون الجاذبية هو الذي يحدد هذه النتيجة، أنت حر في اختيار عدم الاصغاء إلى الآخرين لكنك لست حراً في اختيار نتيجة هذا الفعل وهي نفور الآخرين منك لأن القانون الذي يقول: نحن ننفر من الأشخاص الذين لا يصغون إلينا، هو الذي يحدد هذه النتيجة، أنت حر في اختيار المضيّ في حياتك بدون أهداف وغايات ولكنك لست حراً في اختيار نتيجة هذا الفعل وهو الفشل لأن القانون الذي يقول: لا يمكن للإنسان أن يصل إلى هدف لا يعرفه، هو الذي يحدد هذه النتيجة

لقد صدحت حناجرنا بكلمة (حرية) منذ أول يوم في هذه الثورة، ودفعنا وما زلنا ندفع أنهار الدم ثمناً لهذه الحرية، لذلك حريٌّ بنا احتراماً لهذه الدماء أن نتوقف قليلاً عند معاني (الحرية) ومراميها. (الحرية) أيها الإخوة مسؤولية عظيمة، وهي قد تفتح لنا أبواب الجنة في الدنيا والآخرة وقد تفتح علينا أبواب الجحيم في الدنيا والآخرة. لقد بذل الطغاة جهداً كبيراً طوال العقود الماضية في تيئيس الناس ودفعهم إلى الكفر بأنفسهم وإلى إقناعهم بعدم جدارتهم بالحرية وبأنه لا شيء يحفظ أمنهم واستقرارهم غير سيف الاستبداد المسلط فوق رقابهم، لقد عطل الطغاة حركة المجتمع التي تدفع الناس إلى ممارسة الحرية فضمرت عندهم المعارف والمهارات التي تنجم عن هذه الممارسة وصدّق كثيرون منهم أنهم فعلاً لا تليق بهم الحياة الحرة الكريمة وأن قدرنا نحن العرب أن نعيش في ظل المستبدين إلى أبد الآبدين، لكن الربيع العربي الذي تناثرت أزاهيره من المحيط إلى الخليج أبطل هذه الكذبة الكبيرة وأظهر أن العرب قادرين على انتزاع حريتهم من براثن المستبدين وعلى التمتع بحقوقهم الإنسانية كغيرهم من شعوب الأرض، لكننا ما زلنا في بداية الطريق أيها الإخوة، الحرية مع الجهل لا تستقيم، الحرية مع اتباع الأهواء لا تستقيم، الحرية مع الأنانية وعبادة (الأنا) لا تستقيم، فلنتحرر من جهلنا وأهوائنا وأنانيتنا ولنشمر عن ساعد الجد والعمل ولننشر فيمن حولنا الوعي والمعرفة بسنن الله في النجاح والنصر والتفوق حتى نرتقي إلى مستوى الحرية التي ننادي بها وإنا على ذلك لقادرون

27/6/2012

Share