العصيان المدني: هل فات الأوان؟
بدأت ثورتنا سلمية بكل مظاهرها، واستمرت السلمية المطلقة حوالي ستة شهور، تصدى فيها شبابنا للرصاص بصدورهم العارية، ولما أوغل النظام في القتل، وأخذت عصاباته تقتحم القرى والأحياء فتقتل وتحرق وتغتصب، اضطر الثوار إلى حمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم وأعراضهم، كما كثر عدد المنشقين من الجنود والضباط الذين رفضوا الأوامر بقتل إخوتهم السوريين وهكذا نشأ الجيش الحر الذي أخذ على عاتقه حماية المدنيين والمتظاهرين. على الرغم من هذا التطور الذي فرضه بطش النظام، أدرك السوريون أن نجاح ثورتهم يعتمد على الاستمرار في الاحتجاجات السلمية وجعلها العمود الفقري للثورة، وهكذا استمرت التظاهرات في طول البلاد وعرضها، بل ازدادت في عددها وتواترها وتطورت في شكلها ومضمونها فتحولت إلى أعراس للحرية يهتف فيها السوريون ويغنون ويرقصون معلنين حبهم للحياة الحرة الكريمة ورفضهم للموت الذي يريد النظام أن يفرضه عليهم مخيّراً إياهم بين القتل أو الحياة الذليلة
من معجزات الثورة السورية أن الأعمال العسكرية التي أراد النظام أن تأخذ الناس بعيداً عن الاحتجاجات السلمية دفعت الناس إلى العكس من ذلك تماماً فأكثر المناطق في عدد المظاهرات هي تلك التي اكتسحها النظام بآلته الحربية، وما إن يخمد صوت المدافع والدبابات حتى يخرج الناس بالألوف مما أطار صواب النظام ودفعه إلى عنف غير مسبوق وإلى ارتكاب المجازر متوهماً أنه يستطيع من خلالها جر البلاد إلى حرب أهلية تضيع بين رحاها ثورة الحرية والكرامة، وتصبح الأولوية عند العالم إعادة الاستقرار، فيكلف النظام بهذه المهمة كما كلّفه بدخول لبنان في الثمانينات وإنهاء الحرب الأهلية فيه، لكن أوهام النظام هذه تحطمت على صخرة الوعي الذي أبداه السوريون رافضين الانجرار إلى القتال الطائفي مهما عظمت الجراح والآلام
لقد دخلت الثورة منعطفاً حاسماً، فالعالم على ما يبدو ليس مستعداً لوضع حدٍّ لجرائم النظام بالقوة كما فعل في كوسوفو، وأكثر ما يقدمه إدانات لفظية وعقوبات دبلوماسية واقتصادية لا يقيم لها النظام وزناً ولا تساهم في ردعه بل على العكس تزيده تحدياً للعالم وإصراراً على إجرامه. والنظام يشعر أن الوقت ليس في صالحه لذلك يرفع وتيرة عنفه مسابقاً الزمن ليخمد الثورة في أسرع وقت ممكن، مما يعني أن فاتورة الموت والدم ستتصاعد في الأيام والأسابيع المقبلة، وهنا يُطرح السؤال التالي: هل يمكننا أن نفعل شيئاً يسرع سقوط النظام ويقلل كلفة هذا السقوط؟
لعل ثوار دمشق يتحملون القسط الأكبر من الإجابة على هذا السؤال، فدمشق هي قلب النظام النابض الذي يمد بالحياة أطرافه المجرمة التي تضرب في المحافظات قتلاً وتدميراً. وما دامت الحياة في دمشق تسير بشكل شبه طبيعي، وما لم تعلن دمشق إضراباً وعصياناً مدنياً يشل الحياة الاقتصادية ويشكل طعنة لقلب النظام، فإن النظام مستمر في سياسته العبثية هذه ولو لم يبقَ في سورية حجر على حجر. لقد ضرب ثوار دمشق أمثلة تفوق الخيال في بطولتهم وشجاعتهم، فعلى الرغم من أن النظام حوّل دمشق إلى غابة أمنية إلا أن الثوار كسروا هيبة النظام واستمروا بالخروج يومياً وقطع الطرقات على بعد أمتار من فروع الأمن أحياناً ناهيك عن الأحياء الثائرة التي لا تهدأ فيها الاحتجاجات كأحياء برزة والقابون وجوبر والميدان والقدم وكفرسوسة، ولا شك أن ثوار دمشق ببطولتهم وإصرارهم الأسطوريين أضعفوا معنويات النظام ورفعوا معنويات إخوانهم في ريف دمشق وفي المحافظات الثائرة ويوماً بعد يوم تزداد نسبة التعاطف مع هؤلاء الثوار من قبل الدمشقيين بمن فيهم الفئة الصامتة، إلا إننا نريد أن نرفع وتيرة هذا التعاطف حتى يتحول إلى استعداد للمشاركة في الثورة وإعلان الإضراب والعصيان المدني
قد قيل الكثير عن عدم استعداد التجار في دمشق للإضراب، لكن الإضراب المفاجئ الذي حدث في أسواق دمشق الرئيسية (الحميدية – الحريقة – سوق مدحت باشا) بنسبة تزيد عن 90% صبيحة اليوم التالي لمذبحة الحولة أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التجار مستعدون للإضراب وأن الأكثرية الصامتة في دمشق ليست مؤيدة للنظام بقدر ما هي عاجزة عن التعبير عن رفضها له، كل ما في الأمر أنها تحتاج إلى تشجيع وإلى إقناع بأن كلفة صمتها بعد اليوم أصبحت أكثر من كلفة الإضراب، وتحتاج إلى أن نطمئنها بأن الثورة ليست حركة عبثية فوضوية بل هي ذات مشروع حضاري إنساني يهدف إلى بناء البلد ورفعة أبنائه
إن الحركة الثورية في دمشق تحتاج إلى التركيز على الفئة الصامتة لتكسبها إلى جانبها، وهنا أقترح على إخوتي الثوار أن يقللوا في مظاهراتهم من اللعن والسب، فهيبة النظام قد تحطمت اليوم، وأصبح اللعن والسب يحطم هيبة الثورة، لنهتف في مظاهراتنا بالشعارات التي تعلي من شأن الإنسان السوري، وتبرز القيم الأصيلة التي قامت عليها هذه الثورة والتي يجتمع عليها كل السوريين، كقيمة الكرامة الإنسانية والعدالة والحرية والوحدة الوطنية والأمانة والبذل والإخلاص. يجب أن يعلم الناس أننا لسنا دعاة هدم وحسب بل دعاة بناء أيضاً، وأننا لا نعرف (ما لا نريد) فقط، بل نعرف (ما نريد) أيضاً، لنطرح على الناس تصورنا عن سورية المستقبل، كيف سيكون فيها الجيش لحماية البلاد، وكيف سيكون فيها الأمن لحماية المواطنين، وكيف سيكون فيها القضاء لإحقاق الحق، وكيف ستكون فيها المدارس والجامعات منابر علم ونور، وكيف ستكون فيها الشفافية والمحاسبة والخدمات وكيف وكيف .. نستطيع أن نعبر عن ذلك بعبارات بسيطة نرفعها في مظاهراتنا أو بمنشورات نلقيها في كل مكان أو برسائل صغيرة نوزعها على الناس نوضح فيها رؤيتنا لسورية المستقبل في كل مجال من المجالات، بهذه الطريقة نكسب قلوب الناس وعقولهم ونهيئهم للمشاركة في العصيان المدني عندما ندعوهم إليه
21/6/2012