في ذكرى النكبة: الكرامة هي مفتاح العودة
في ذكرى النكبة ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن النكبة الحقيقية لم تكن في فقدان فلسطين، وإنما في فقدان الكرامة التي استباحها الطواغيت وعجزنا عن استردادها إلى أن بدأت الثورة العربية من تونس إلى صنعاء. علم الصهاينة أن العبيد لا يكرّون ولا يفرّون، وأن إنساناً عربياً ذليلاً لا يستطيع أن ينصر قضية الحرية والكرامة في وطنه لن يستطيع أن ينصر قضية الحرية والكرامة في فلسطين، علموا أن شعباً عربياً عاجزاً عن الدفاع عن نفسه في وجه حكام صادروا قراره وفرضوا الوصاية عليه وداسوا حقوقه الإنسانية الأساسية، هو أعجز من أن يدافع عن فسلطين ويستردها ممن اغتصبها. لذلك دعم الصهاينة عن طريق الأنظمة الغربية التي ترعاهم بقاء الطواغيت العرب، حراساً على أبواب اسرائيل يحولون بينها وبين شعوبهم
لا أقول ذلك من باب التكهّن والتحليل بل هي حقائق ووقائع يعترف بها الصهاينة أنفسهم، فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرنوت" أن الحكومة الإسرائيلية عقدت بعد سقوط الديكتاتور التونسي مشاورات مع وزراء وقادة الأجهزة الأمنية حول الوضع في تونس حيث تابع المستوى السياسي الصهيوني (بتخوف) ما يجري فيها، وأوضحت الصحيفة العبرية نقلاً عن أوساط دبلوماسية إسرائيلية قولها إنها رأت أن ما جرى في تونس يعتبر ضوءاً أخضر لشعوب عربية أخرى بالتحرك ضد السياسات العربية القائمة في الكثير من الدول التي تمر بحالة من الفقر المدقع وانعدام الديمقراطية والحريات العامة. هذا القلق الصهيوني من انتشار الديمقراطية في العالم العربي لم يولد مع سقوط ديكتاتور تونس بل هو قلق مزمن لازم الدولة العبرية منذ نشوئها، ففي تاريخ 10/10/2005 كشف تلفزيون الكيان باللغة العبرية تفاصيل اجتماع عقده رئيس وزراء الكيان الأسبق (آرئيل شارون) وعدد مقلص من وزرائه مع كبار قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حول تصور العلاقات المستقبلية مع العالم العربي. حيث كان من اللافت أن هناك إجماعاً بين (شـارون) وقادة أجهزتـه الأمنيـة على إنـه من مصلحـة الكيان الإبقاء على أنظمـة الحكم الشـموليـة في العالم العربي. ليس هذا فحسب، بل إن المجتمعين توصلوا إلى استنتاج مفاده أن التحول الديمقراطي في العالم العربي، وبالذات في الدول التي تُحيط بالكيان المحتل، سيُفاقم المخاطر الإستراتيجية على وجود الدولة العبرية نفسها. المجتمعون الذين استمعوا إلى تصورات قدمها عدد كبير من المستشرقين الصهاينة وعدد من كبار قادة أفرع المخابرات الذين تعاطوا مع الشؤون العربية خلصوا إلى نتيجة مفادها: إن التحول الديمقراطي في العالم العربي سـيُفضي بالضرورة إلى وصول نُخب سـيكون من المسـتحيل على الدولـة العبريـة التوصل معها لتسـويات سـياسـيـة وفق بوصلـة المصالح الإسـرائيليـة
ويرى المستشرق (جاي باخور) الباحث البارز في مركز "هرتسليا متعدد الاتجاهات" في صحيفة "يديعوت أحرنوت"بتاريخ 18/01/2004: أن حقيقـة حرص الأنظمـة العربيـة الشـموليـة على موائمـة سـياسـتها مع السـياسـة الأمريكيـة طمعاً في البقاء، جعلها ترى في مغازلـة (إسـرائيل) والتودد لها بمثابـة "جواز السـفر" إلى قلوب صُناع القرار في واشـنطن! ويجزم (باخور) أن مبادرة أنظمـة الحكم العربيـة للتطبيع مع (إسـرائيل) تأتي فقط لعدم استناد هذه الأنظمـة إلى شـرعيـة الانتخابات، حيث أن كل ما يهم هذه الأنظمـة هو بقاؤها، وليـس مصالح شـعوبها…
ويُشير الجنرال المتقاعد (داني روتشيلد)، الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" إلى حقيقة استفادة (إسرائيل) دوماً من حقيقـة حصر الأنظمـة الشـموليـة في العالم العربي اهتمامها فقط بالحفاظ على اسـتقرارها، وعدم ارتباطها بمصالح شـعوبها الوطنيـة والقوميـة. ويضيف في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية بتاريخ 23/07/2005: "الحكومات التي يتم فرزها ديمقراطياً تكون ملتزمـة بالعمل على تحقيق المصالح الإستراتيجية لدولها، لذا فإن هناك مصلحـة إسـرائيليـة واضحـة وجليـة في بقاء أنظمـة الحكم العربيـة الحاليـة". من ناحيته يرى الكاتب والمعلق السياسي الشهير (آلوف بن): "أنه ليس من مصلحة (إسرائيل) تحول العالم العربي نحو الديمقراطية وذلك لأن (إسرائيل) في هذه الحالة ستفقد خصوصيتها كـ "واحة" للديمقراطية في منطقة تحكمها الديكتاتوريات، وبذلك تفقد تل أبيب الحق في الزعم بأنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تربطها قواسم مشتركة مع حضارة الغرب
لذلك ليس غريباً أن يُترك النظام السوري (ليربي) هذا الشعب الثائر ويعيده إلى حظيرة الطاعة، وألا يتجاوز العالم الإدانة اللفظية وهو يشهد أبشع مجزرة في التاريخ الحديث، يتعرض لها شعب أعزل طوال أكثر من عامين تحت سمع العالم وبصره، فقط لأنه طالب بالحرية. وليس غريباً أن تقصف المقاتلات الاسرائيلية قاسيون وتحيل ليل دمشق إلى جحيم، فيما المخابرات الجوية مشغولة بتقطيع أوصال المطالبين بالحرية في أقبية التعذيب وتسليمهم إلى أهاليهم جثثاً ممزقة! فالجيوش العربية وأجهزة الأمن الملحقة بها لم تكن في يوم من الأيام إلا لقمع الشعوب واستدامة إخضاعها وتركيعها
يعلم الصهاينة أن الطريق إلى القدس لا يمر من عواصم عربية أسيرة يحكمها مستبدون قيدوا شعوبهم وحيّدوهم عن المعركة مع العدو، بل يمر من عواصم حرّة تحكمها أنظمة تعبر عن إرادة شعوبها، أنظمة وصلت إلى الكراسي عن طريق صناديق الاقتراع وليس بسطوة الأمن وبطش المخابرات. يعلم الصهاينة أن شمس الحرية إذا سطعت في منطقتنا فإنها ستطلق حراكاً حضارياً لن يتوقف حتى يوصل إلى سدة الحكم أنظمة تعرف كيف تحّرر طاقات الشعب العربي وكيف توحد هذه الطاقات في مواجهة الصلف الصهيوني وكيف تدير معركتها معه حضارياً وسياسياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً
هل يعني ما سبق أننا سنحرر فلسطين في اليوم التالي لإسقاط الطغاة؟ بالطبع لا، فالتخلص مما خلفه الاستبداد في مجتمعاتنا من تناقضات وسلبيات يحتاج إلى سنوات، وبناء القدرات الوطنية الذاتية سيستغرق سنوات أخرى، وإيجاد صيغ التكامل والتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين الدول التي تحكمها أنظمة تعبر عن إرادات الشعوب حتى تصبح قادرة على المواجهة سيستغرق سنوات بعدها. هل يعني ما سبق أن الصهاينة سيتركون الشعب العربي وشأنه بعد أن ثار وحطم قيده؟ بالطبع لا، فهم سيسعون بكل ما يستطيعون إلى حرف الثورات عن مسارها، وإثارة الصراعات في البلد الواحد، ومنع الشعب من الوصول إلى بر الأمان. إنه صراع إرادات وعقول ونفوس ينتصر فيه من هو أصلب إرادة وأكثر وعياً وأقوى نفساً، ولعمري إن كرامة دُفع ثمنها كل هذه الدم أصبحت أغلى من أن يستطيع شراءها مرة أخرى مستبد داخلي أو عدو خارجي، إنه طريق الحرية اللاحب بدايته جمر وشوك ودم ونهايته رفعة ومجد وعزٌّ وسؤدد، وهكذا كان الطريق .. عبر تاريخ البشرية كله
15/5/2013