cover

هل (انحرفت) الثورة السورية بحمل السلاح؟

من أكثر النظريات التي تعرضت للنقاش في الثورة السورية نظرية (اللاعنف) فانقسمت الآراء حولها بين من يرى فيها تنظيراً لا يستقيم مع الواقع، ومن يرى أن عدم الالتزام بها هو سبب الدمار الذي حلّ بسورية، فلو ظلت (سلمية) لسقط النظام بثمن أقل

أولاً، أفضّل استبدال عبارة (القوة المادية) بعبارة (العنف) في مناقشة هذا الموضوع، لأن عبارة (العنف) ذات مدلول سلبي تعطي من يناصر فكرة اللاعنف تفوقاً أخلاقياً وهمياً، فمن يدافع عن (العنف) إلا الأشرار؟! كما أفضل عدم الزج بقوله تعالى (لا إكراه في الدين) في النقاش لأنه ما من عاقل يقول بإمكانية استخدام القوة المادية لتغيير قناعات الناس الدينية! برأيي أن الوصف الدقيق للمسألة المختَلف عليها هو: هل يجوز استخدام (القوة المادية) في دفع الأذى عن النفس والآخرين في بعض الحالات أم إن ذلك لا يجوز مطلقاً؟

جوابي البسيط هو أن الأمر مرهون بالإجابة على الأسئلة الثلاث التالية : 1- هل هناك بدائل أخرى غير القوة المادية؟ 2- ما هي العواقب الإيجابية والسلبية على المديين القصير والطويل الناجمة عن استخدام كلِّ من هذه البدائل؟ 3- بناءً على ما سبق، ما هو البديل الأفضل الذي يدفع أكبر قدر من الأذى بأقل قدر من الخسائر؟ اذا اكتشفت أن ابني يدخن السجائر مثلاً، فهل تمزيق علبة السجائر أمامه وصفعه سيحل المشكلة، أم محاولة (إقناعه) بضرر التدخين ومساعدته على التخلص من هذه العادة؟ لو أن لي صديقاً مصاباً باكتئاب شديد، وشاهدته مندفعاً إلى النافذة ليلقي نفسه منها هل الأفضل أن ألقي بجسدي عليه وأستخدم القوة المادية كي أوقفه، أم أن أحاول (إقناعه) بقيمة الحياة وحرمة الانتحار وهو في حالة من الذهول لا يدرك معها شيئاً وقد يصبح جثة هامدة أسفل البناء قبل أن أكمل بضع كلمات؟ منذ أعوام تسلل يمينيٌّ متطرف إلى جزيرة نائية في النروج أقيم فيها معسكر للشباب وبدأ بإطلاق النار عليهم وقتل وجرح العشرات، لو كنتُ هناك أحمل سلاحاً وشعرتُ أن إطلاق النار عليه سيوقف المجزرة ولم أشعر في تلك اللحظة  أن لدي طريقة أخرى لإيقافها هل يجوز عقلاً وشرعاً وأخلاقياً ألا أطلق النار؟ لا أريد الإكثار من الأمثلة فغايتي هي القول أنه يجوز استخدام القوة المادية في بعض الحالات لدفع الأذى حتى عن الجهة التي تريد أن تؤذي نفسها! فعندما تتمتع دولة بجيش قوي يرد بقوة وحزم على أي اعتداء عليها فإن استخدام القوة المادية هذا سيحميها من أن تفكر دولة أخرى بمهاجمتها أي أنه سيمنع الحرب التي ستُنزل الأذى بالدولة المهاجِمة أيضاً، إن استخدام القوة المادية في ردع المعتدي يحمي المعتدي نفسه مما قد يجنيه عليه اتباعُ شهوة الظلم والاعتداء. يعتمد (اللاعنفيون) في نظريتهم على افتراض مفاده أن التعامل بالحسنى واستخدام الإقناع مع من يستخدم القوة ضدك سيحرك فيه الجانب الإنساني والجانب العقلي المنطقي فيقتنع بعدم استخدام القوة في نهاية المطاف. هذا الافتراض لا ينطبق  على كل الناس،  لأن الناس لا تحركهم القناعات فقط وإنما تحركهم الشهوات أيضاً ومنها شهوة الظلم والعلو (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) النمل - 14 - شهوة الظلم والعلو تغلق العقول فيذهل أصحابها عن إدراك ما يسمعون أويرون وبالتالي تنتفي قابليتهم للتأثر بتكتيكات المقاومة السلمية وأساليبها (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بلْ هُمْ أضلّ) الأعراف – 179 -  وستظل شهوة الظلم والعلو موجودة في نفوس البشر ما دام هناك بشر على وجه الأرض

هل يعني ما سبق أنني أنفي جدوى (المقاومة السلمية)؟ أبداً، على الإطلاق، إن استخدام (المقاومة السلمية) في إسقاط الطغاة استراتيجية ناجحة في كثير من الحالات، لكن هذه المقاومة لا تعمل بطريقة الإقناع فقط وإنما تعمل بطريقة الإقناع والإجبار معاً، كيف ذلك؟ هناك صنف من النظام الاستبدادي تغير المقاومة السلمية قناعاته ويتولد العطف في قلبه بسبب سلمية المقاومين وشجاعتهم (كالجنود والضباط الذين ينشقون عن النظام)، ولكن هناك صنف ثانٍ لا يتغير ولا يتأثر لأنه ينتمي إلى ذلك النوع من البشر الذي وصفته الآيتان السابقتان ممن غلبت عليهم شهوة الظلم والعلو فأصبحوا لا يفقهون ولا يسمعون ولايبصرون، مهمة المقاومة السلمية هي عزل الصنف الأول عن الصنف الثاني مما يؤدي إلى تغيير موازين القوة المادية في صفوف النظام الاستبدادي وإجبار الصنف الثاني بالقوة المادية – وليس بالإقناع -  على ترك السلطة. مبارك وبن علي تركا السلطة لأن الجيش (وهو ليس مؤسسة لا عنفية!) انحاز إلى جانب الشعب وأجبرهما على الرحيل، في الثورة الإيرانية واجه المحتجون الجيش بالورود والأناشيد الوطنية فانقلب على الشاه ومخابراته (السافاك) وانحاز إلى الشعب وهرب الشاه وأعوانه مجبَرين، الأمر ذاته حدث في رومانيا وصربيا واليمن ودول أخرى أُجبر فيها الطغاة وأعوانهم على الرحيل لأن الثورات الشعبية السلمية غيرت ميزان القوة المادية فلم يعد في صالحهم

من الإجحاف القول أن الثورة السورية لم تنجح في اختبار (المقاومة السلمية)، وأنها انجرّت سريعاً إلى حمل السلاح! لقد نجحت الثورة في اختبار المقاومة السلمية بامتياز ولم يسجل التاريخ أن شعباً تمسك بسلمية ثورته طوال ستة شهور مع سقوط آلاف القتلى وعشرات ألوف الجرحى ومئات ألوف المعتقلين في هذه المدة الوجيزة، وقد آتت هذه السلمية أُكُلها فبفضلها انشق من انشق عن الجيش وبفضلها انكشفت وحشية النظام بطريقة أفقدته كل شرعية داخلية وخارجية ووضعته على سكة الرحيل، لقد كانت كلفة الثورتين التونسية والمصرية قليلة لأن الجيش الذي حسم الأمر في هذين البلدين انشق عن النظام دفعة واحدة، بينما ينشق الجيش في سورية على دفعات صغيرة (بسبب تركيبته الطائفية التي لا تخفى على أحد) وهذا ما أطال أمد الثورة وجعل كلفتها عالية.  ويظل السؤال، ماذا لو أن الثوار لم يحملوا السلاح؟ سيجيب البعض – وأنا منهم وقد أكون مخطئاً – أن الثورة كانت ستنتهي وسيعود تغول النظام على المجتمع أكثر مما كان وسيدخل السوريون في يأس قاتل وسيسكت العالم على جرائم النظام كما سكت سابقاً – عدا بعض الإجراءات الشكلية كالإدانات والمطالبات - وسيُستقبل بشار الأسد في عواصم الدول التي تنادي برحيله اليوم كما استقبل بعد اتهامه بقتل الحريري، وسيدخل المجتمع السوري في حقبة من الإحباط النفسي والانحلال الأخلاقي والدمار المعنوي أسوأ من الحقبة التي أعقبت أحداث الثمانينات. سيجيب آخرون أن الثورة لو لم تلجأ إلى السلاح لانتصرت بسلميتها، ولكن كيف؟ كيف يمكن للناس أن يستمروا في الخروج سلمياً وإخوانهم يتساقطون حولهم بالرصاص يومياً؟ كيف يمكن أن يستمروا بالخروج وإخوانهم يعتقلون ويعادون إلى أهاليهم جثثاً ممزقة؟ كيف يمكن أن يستمروا بالخروج والدبابات تحاصر مدنهم وقراهم؟ حتى وسائل المقاومة السلبية التي لا يخرج الناس فيها إلى الشوراع كالإضرابات تعامل معها النظام بالوحشية ذاتها، فالمضربون اعتقلوا من بيوتهم وعاد بعضهم إلى أهاليهم جثثاً مشوّهة! قد يكون الأمر ممكناً ولكن من يتحدث عن إمكانيته يجب أن يكون ممن استمر بالمقاومة السلمية وليس ممن لم يخرج في مظاهرة واحدة وينظّر عن (اللاعنف) من الخارج أو الداخل، أو ممن خرج عدة مرات ثم خاف فجلس في بيته أو غادر البلاد بعد أن حلّق الرصاص فوق رأسه أو اعتُقل إخوانه أو اعتُقل لفترة محددة أو أصبح اسمه على قائمة المطلوبين، فلا يمكنك أن تقنع الناس بالاستمرار بالمقاومة السلمية برغم بطش النظام اللامحدود إذا لم تقنع نفسك بذلك! يروى أن امرأة لديها طفل مصاب بالسكري لا يلتزم بالحمية طلبت من غاندي أن يقنعه بالامتناع عن أكل السكر فقال أمهليني أسبوعاً، بعد أسبوع تحدث غاندي مع الطفل قليلاً وامتنع الطفل بعدها عن أكل السكر، سألت الأم غاندي: كيف أقنعته؟ فأجاب: امتنعت عن أكل السكر لمدة أسبوع! لو استمر بالمقاومة السلمية أولئك الذين يدعون إلى الاستمرار بها والاقتصار عليها لاستطاعوا – ربما - إقناع الآخرين بوجهة نظرهم، علماً بأن المقاومة السلمية لم تتوقف بوجود العمل المسلح والذين استمروا بالعمل السلمي يحيّون الجيش الحر في مظاهراتهم ومنشوراتهم والعبارات التي يكتبون على الجدران ولا يخطّئون من حمل السلاح  – كما يفعل بحماسةٍ ويقين بعض دعاة اللاعنف الذين لم يشاركوا في المقاومة (اللاعنفية) أو شاركوا لفترة ثم توقفوا بسبب (عنف) النظام!- هؤلاء الذين استمروا بالمقاومة السلمية ولا يعارضون العمل المسلّح يعتبرون أن الثورة تحلّق بجناحين: سلمي يعبر عن روحها وجوهرها، وعسكري أوجدته الضرورة

 لا يعني ما سبق أن تكون القوة المادية هي الحل الأول أو الوحيد، لكنني لا أرى استبعاد اللجوء إلى القوة المادية عند الضرورة أمراً واقعياً، وأفهم أن المقاومة السلمية هي الأسلوب الذي يجب أن نلجأ إليه في سورية المستقبل بعد التخلص بالقوة من هذا الوحش الفالت الذي لا يملك ذرة عقل أو ضمير، وأن خلافاتنا بعد رفع سكين النظام عن أعناقنا يجب أن نحلها بالحوار في ظل دولة تعددية تحترم رأي الأكثرية الذي تفرزه صناديق الاقتراع، وأن استخدام القوة المادية في دولتنا المنشودة يجب أن يُحصر بجيش الدولة وشرطتها في سياق الضرورة فقط بعد استنفاذ الوسائل الأخرى، وأن بعض من حمل السلاح سلك مسلكاً غير أخلاقي يتشابه فيه مع النظام كالدوس على رؤوس القتلى مع أن الإسلام حرم التمثيل بالجثث في ساحة المعركة، وأن الثورة يجب أن تستمر بعد رحيل الجزّار بالطرق السلمية حتى تؤتي أُكُلَها مجتمعاً تسوده ثقافة احترام كرامة الإنسان، وأنه من الطبيعي أن التغيرات السياسية التي تنتجها الثورات تكون سريعة، بينما تستغرق التغيرات الثقافية وقتاً أطول

 20/4/2013

Share