cover

القول اللين والإنصات الجيد

يقول تعالى في محكم تنزيله "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" الآية تطلب من الدعاة إلى الله أن يتقنوا "القول اللين" وهي تعرِّف القول اللين بأنه القول الذي يجعل الناس "يتذكرون أو يخشون" أي أنه القول الذي يؤثر في الناس. اليوم تطورت علوم التواصل والتأثير تطوراً هائلاً، وأصبحت هناك الكثير من الدورات التي تعلم هذه العلوم والمهارات، أي أن "القول اللين" أصبح بفضل الله تعالى أمراً يمكن تعلمه. لقد بدأ الدعاة إلى الله يدركون أهمية هذه العلوم والمهارات ويسعون إلى اكتسابها بعد أن لمسوا الفرق الهائل الذي تحدثه هذه العلوم في قدرتهم على التواصل والتأثير. وسأذكر فيما يلي أول وأهم مهارة من مهارات القول اللين وهي (الإنصات الجيد)

 قد يقول قائل: ما علاقة الإنصات الجيد بالقول اللين؟ إن الإنصات الجيد يساعدنا على فهم الآخرين ومن أهم الأمور التي تساعد على التواصل الفعال هي أن نفهم الآخرين أولاً قبل أن نطلب منهم أن يفهمونا، ماذا يحدث لأحدنا عندما يبدأ بالحديث عن أمر ما لشخص آخر فينهال عليه ذلك الشخص بالآراء والنصائح قبل أن يكمل حديثه ويعبر تماماً عن أفكاره ومشاعره؟ ألا يبني ذلك حاجزاً بيننا وبين ذلك الشخص ويجعلنا أقل استعداداً للإنصات إليه والتأثر بكلامه؟  بالمقابل كيف نشعر عندما نجد شخصاً ينصت إلينا حتى النهاية ونلمس منه حرصه الشديد على فهمنا؟ ألا يشعرنا ذلك بالاطمئنان إليه ويجعلنا مستعدين لتقبل كلامه؟ نعم يسهل علينا الإنصات إلى الآخرين عندما يقولون كلاماً يعجبنا، ولكن المنصت الجيد يعرف بقدرته على الإنصات حتى عندما يسمع كلاماً لا يعجبه أولا يوافق عليه. حدثني أحد الأساتذة المتطوعين لتحفيظ القرآن كيف أن أحد الآباء استجار به لأن لديه ابناً كانت تربطه علاقة عاطفية بإحدى الفتيات وقد خُطبت هذه الفتاة لشاب آخر فقرر ابنه أن يؤذيها ويؤذي خطيبها لأنها تخلت عنه فأراد الأب من ذلك الأستاذ - المعروف بحكمته وإتقانه لـ "القول اللين" - أن يقنع ابنه بعدم التفكير بتلك الفتاة والعدول عن إيذاءها وإيذاء خطيبها. حدثني ذلك الأستاذ الفطن كيف أنه لم يجلس مع  الشاب (ليقنعه) كما أراد الأب بل جلس معه في زاوية هادئة من زوايا المسجد لينصت إليه ولما لمس الشاب منه إنصاتاً وتفهماً وشعر بالأمان  معه أخذ يبوح له بأشياء وأشياء لم يبح بها لأحد من قبل، انقضت جلستان استغرقت كل واحدة منهما حوالي ساعة كاملة لعب فيهما ذلك الأستاذ دور المنصت الجيد، وكان لا يتكلم إلا ليستوضح أمراً أو ليتأكد من أنه فهم ما يقوله ذلك الشاب تماماً، وفي الجلسة الثالثة تكلم الأستاذ مع ذلك الشاب كلاماً رقيقاً وحازماً جعله يعدل تماماً عما كان يفكر فيه بل كانت تلك الجلسات نقطة انعطاف حقيقية في سلوكه وطريقة تفكيره. لقد نجح ذلك الأستاذ لأن أتقن المهارة الأولى من مهارات "القول اللين" وهي مهارة (الإنصات الجيد)، هذا الإنصات مكنه من أن يفهم ذلك الشاب جيداً ويعرف طريقة تفكيره وكيف يمكن التأثير فيه، ثم أن يبنى كلامه معه على هذا الأساس فجاء الكلام مؤثراً وفعالاً. أعرف أشخاصاً لو كانوا في مكان ذلك الأستاذ لأجلسوا ذلك الشاب على ركبتيه وانهالوا عليه بالمواعظ منذ أول لقاء حتى (يقلع عن ذنبه ويتوب إلى الله) ولم يكونوا لينصتوا إليه أو ليسمعوا منه كلمة واحدة! إن الإنصات الجيد يحتاج إلى الكثير من الصبر وسعة الصدر لكنه بالتأكيد هو المفتاح إلى القلوب والعقول وأختم كلامي بقوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم

2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي

Share