cover

شباب الثورة وسؤال (الفاعلية السياسية)

الثورة السورية  كمثيلاتها من الثورات العربية - وآخرها ثورة الجزائر - هي حدث سياسي بامتياز. ماذا نقصد بـِ (الحدث السياسي)؟ يحتاج شرح العبارة إلى تجلية اللبس الذي تتصف به كلمة (سياسي) وهو لبس يعود إلى عقود من الاستئثار بصنع السياسة، مارسته في كل دولة عربية قلة متسلطة فرضت وصايتها على الأكثرية  وادعت لنفسها الحق الحصري في ممارسة السياسة

صورة (السياسي) التي نشأنا عليها هي صورة الانتهازي الذي يعبد المنصب ويستغله لتحقيق مصالحه الشخصية، وهي صورة الكاذب أيضاً، إلى درجة أن أحدنا إذا أراد أن يثبت صدق مقولته يصدّرها بالقول (بعيداً عن السياسة)، أما العمل السياسي المؤسساتي أي العمل الحزبي فقد أصبح رديفاً للتعصب وضيق الأفق واستغلال القضايا النبيلة لمصالح حزبية، إلى درجة أن (عدم الانتساب لأي حزب) أصبح مدعاة تفاخر ويعبر عن الاستقامة، وكثيراً ما نسمع عن مجموعة تعمل بشكل منظم (نحن لسنا حزباً) وكأنها تهمة تبيضُّ أوراق المجموعة حينما تدفعها عن نفسها

هذا اللبس في تعريف السياسة والعمل السياسي المنظم سببه  اقتران السياسة والسياسيين في أذهاننا بتجربة المستبدين في بلادنا الذين جعلوا السياسة مطية لمصالحهم، حتى الأحزاب المعارضة لم تكن في معظم الأحيان إلا صدى لهذه الأنظمة وهذا ما يفسر جمودها وتكلسها وعجزها عن اللحاق بركب الثورات العربية فضلاً عن عجزها عن قيادة هذه الثورات واستثمارها لخلق بديل عن الأنظمة مقبول داخلياً وخارجياً

ما هو الفعل السياسي إذن، إذا لم يكن كل ما سبق؟

كل فعل يساهم في صنع قرار يحقق مصالح الناس، ويساهم في إيصال القوي الأمين إلى سدة صنع القرار، ويساهم في مراقبة ومحاسبة صانع القرار لكي لا يحيد عن مهمته في تحقيق مصالح ناخبيه، ويساهم في استبدال صانع القرار بمن يتوقع أن يكون أكفأ منه عندما يقصر في أداء مهمته، هو فعل سياسي

إذن عندما نقول عن الثورات العربية أنها (حدث سياسي) نعني أنه حدث أثر في صنع القرارات التي تمس حياة الناس، حدث أدخل شرائح واسعة من المجتمع إلى ساحة التأثير في صنع القرار بعدما همّشها الاستبداد لعقود من الزمن

كثير من الشباب الذين شاركوا في صناعة هذا الحدث السياسي الكبير - حدث الثورة، أخرجوا أنفسهم اليوم من ساحة الفعل السياسي بسبب عدم وضوح طبيعة هذا الفعل لديهم وعدم إدراك أهميته وضرورته الملحة

في البداية كانت التظاهرات والاعتصامات والكتابة على الجدران للمطالبة برحيل النظام وغيرها من وسائل التعبير هي الفعل السياسي ذو الأولوية،  في مرحلة لاحقة كان الانهماك في الأعمال الإغاثية والتعليمية والإدارية  التي تلبي حاجات الناس في المحرر وتمكنه من الصمود هو الفعل السياسي ذو الأولوية، اليوم هناك فراغ سياسي كبير وهوة واسعة بين جمهور الثورة والسياسيين الذين يتحدثون باسمها، يحتاج ملء هذا الفراغ وجسر هذه الهوة إلى أدوات تأثير سياسي مختلفة عن أدوات المرحلتين السابقتين

يحتاج شباب الثورة اليوم إلى أن ينظموا أنفسهم في مؤسسات سياسية تكون هي الحواضن التي تحقق خمسة أهداف

أولاً، رفع الوعي السياسي عند شباب الثورة، ونعني بالوعي السياسي أمرين

الثقافة السياسية العامة: إذ يجب أن يلم الشباب بالمبادئ العامة في علم السياسة وما يتعلق به من علوم اجتماعية واقتصادية

متابعة المستجدات في القضية السورية وتحليلها: القضية السورية متشابكة معقدة تكثر فيها المتغيرات، وبالتالي يجب أن يتصدى في المؤسسة السياسية مجموعة من المختصين والمتابعين لجمع المعلومات الصحيحة وتحليلها بشكل علمي لفهم الصورة كاملة، فالقضية السورية قضية عالمية تؤثر وتتأثر بسياسات دول كثيرة وأي نظرة مجتزأة للأحداث تعطي صورة ناقصة تؤدي إلى سوء الفهم والعجز عن التنبؤ بالمآلات وعن تبين الفرص وهوامش التأثير المتاحة

 رفع الوعي السياسي لا يعني أن يصبح كل شباب الثورة ممارسين للسياسة إنما يعني امتلاك ثقافة سياسية  لا يمكن للشباب أن يكونوا فاعلين ومؤثرين في الشأن السياسي من دونها. تماماً كما أن تحصين مجتمع من الأمراض لا يحتاج إلى أن يكون كل الناس أطباء ولكن يحتاج إلى أن يمتلك كل الناس ثقافة صحية

ثانياً، بلورة مواقف سياسية صائبة تحقق المصلحة الوطنية مع الأخذ بعين الاعتبار تقاطعها مع مصالح الدول الأخرى دون أن تكون تابعة لهذه الدولة أو تلك

ثالثاً، التحشيد لهذه المواقف من خلال إيصالها مباشرة إلى الفاعلين السياسيين وإلى من يتكلمون باسم الثورة، ومن خلال صنع رأي عام ضاغط بين أهل الثورة لا يستطيع الفاعلون السياسيون ومن يتكلمون باسم الثورة تجاوزه

رابعاً، إعداد رؤى بالملفات السياسية الملحة، تتجاوز الشعارات والطروحات العامة، إلى الحلول العملية والبرامج التفصيلية

خامساً، إعداد كوادر متخصصة في العمل السياسي  وما يتعلق به من إعلام واقتصاد وعلاقات عامة وعلاقات دولية وتخطيط وإدارة ليساهموا في قيادة البلاد في المرحلة القادمة

هذه المحاور الخمسة هي مجالات الفعل السياسي اليوم وهي تحتاج إلى عمل مؤسساتي وهي لا تحتمل التأجيل لأن السياسة لا تحتمل الفراغ والساحة إن لم يشغلها المخلصون الأكفاء سيشغلها الوصوليون والانتهازيون، ولا خوف من عدم وجود تجربة سابقة فلا شيء يُنضج التجربة ويصلّب عودها أكثر من خوضها وكل تأخير في الإقدام عليها هو تأخير في إنضاجها وتصليبها

Share