cover

رؤيتي لسورية الجديدة

ولدت الدولة السورية الحديثة بحدودها التي نعرفها اليوم قبل مئة عام تقريباً على أنقاض الامبراطورية العثمانية، وعلى مر التاريخ لم يكن لهذه المنطقة من العالم كيان سياسي خاص بل كانت جزءاً من كيان أوسع، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن لها لونها الخاص ونكهتها الحضارية المتميزة، فقد تميزت بلاد الشام، وهو الاسم الذي عرفت به بلاد شرق المتوسط، بحيوية هائلة وقدرة عجيبة على صنع المفاجآت التاريخية السارة منها والمحزنة، وتميز أهلها بالقدرة على التعايش فيما بينهم، وعلى التكيف مع أصعب الظروف، مستفيدين من صفتين زرعهما الله فيهم: مرونة هائلة وإبداع ممزوج بالذوق الرفيع، تضاف إليهما صفة ثالثة: عزة  نفسٍ جعلت  البعض يصف الشعب السوري بأنه (شعب كله رؤساء) وهي مقولة تُنسب إلى الرئيس السوري شكري القوتلي وإن كان البعض ينكر نسبتها إليه، وتُستخدم غالباً في معرض الذم، لكن علوم القيادة الحديثة تقول: القيادة الحقيقية هي أن تصنع قادةً لا أتباعاً، ولو قُيّض للسوريين قيادة تؤمن بهم وتحترمهم لحولت عزة نفوسهم إلى طاقة جبارة تُستخدم في العمران بدلاً من الصراع.

لن أستحضر الأرقام التي تشير إلى نسبة الأطباء السوريين وغيرهم من أصحاب المهن الرفيعة  وإلى حجم مساهماتهم الاقتصادية والعلمية وإلى قصص نجاحهم في هذه الدولة أو تلك، فسمعة السوريين في هذا المجال تسبق الإحصائيات، ويكفي للدلالة على حيوية السوريين أن ستين عاماً من حكم الأسد ما ترك فيها طريقة لسحق كراماتهم  وتدمير ثقتهم بأنفسهم إلا واتبعها انتهت بثورة عارمة عليه قوّضت حكمه المدعوم من أعتى قوى الأرض ووضعته على سكة الزوال.

عندما أنظر إلى المستقبل أرى على هذه الأرض، شعباً أدرك قيم الحرية والعدالة والكرامة  بعد أن دفع ثمنها أنهاراً  من دم فلم يعد مستعداً ليطأطئ رأسه لطاغية، أرى شعباً عرف روعة الحياة بعد أن ذاق أصناف الموت فقرر أن ينتقم من الموت على طريقته بالعمل والبناء وإثبات الذات، أرى شعباً جديداً شجاعاً، العروبة عنده ثقافة ولغة وإبداع وذوق  وليست قومية جاهلية تستعلي وتُقصي، والإسلام عنده أخلاق وحضارة وقيم ومقاصد وليس تعصباً وانغلاقاً، أرى شعباً مكوناته  يكمل بعضها البعض، وخيرات بلاده تجتمع لتعم جميع أهلها، من ثرواتها الباطنية التي تكفي وحدها لجعلها من أغنى دول العالم، إلى موقعها الاقتصادي كمعبر بين القارات، إلى رصيدها من الآثار والأوابد التاريخية – إحدى الدراسات تقول بوجود 50 ألف معلم تاريخي في سورية معظمها مهمل لا يعرف عنه أحد - إلى ثرواتها الزراعية المتميزة كماً ونوعاً لا سيّما القمح والقطن والزيتون، إلى مناطقها الطبيعية المتنوعة  التي تجمع بين البحر والجبل والغابة والصحراء في مزيج متقارب قل مثيله في أنحاء الأرض، يضاف إلى ذلك طيب معشر أهلها وحسن ضيافتهم وجدّهم في العمل مما سيجعل سورية قبلة للسياحة والاستثمار والتعلم والتطبب بأرقى العقول وأمهر الأيادي وأفضل الأسعار.

 عندما أنظر إلى المستقبل أرى على هذه الأرض شعباً نجح في تجاوز محنته وهزيمة طغاته فأصبح بين الشعوب مثالاً على الأمل بقدرة الإنسان على اجتراح المعجزات وتجاوز الواقع السيء، ومثالاً على رفض الظلم مما سيساهم في صناعة عالم أقل استبداداً وأكثر عدالة. عندما أنظر إلى المستقبل أرى شعباً تناثر في أرجاء الأرض ليجني من علوم الدول وثقافاتها ثم ليعود بها عسلاً مصفّى يغذي المشروع الحضاري في بلاده سواء استقر في سورية أو اختار البقاء في بلاد المهجر رسولاً لحضارة بلاده هناك مخصصاً لأهله شيئاً من ماله وعلمه وجهده وخبرته. ولا أقارن ما يمكن أن يحدث لسورية الجديدة بما حدث لألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية فتطور العلوم ووسائل التعلم والنقل والتواصل سيسرع عملية التعافي وإعادة إعمار البشر والحجر وما كان يستغرق عشرة أعوام في الأربعينيات قد لا يستغرق أكثر من عام في  وقتنا هذا.

تحقيق هذه الرؤية دونه درب طويل من التخلص من نظام الإجرام إلى بناء الدولة إلى تحرير البلاد من الاحتلالات، وهي رؤية ممكنة وليست مستحيلة بل إنها قَدَرٌ لا مردّ له إذا توفر شرطان: الإيمان والإرادة.

Share