cover

العلويون وحرائق التاريخ

في صيف  1989 عندما كنت في السنة الخامسة في كلية الطب في جامعة دمشق شاركت في معسكر (إنتاجي) في جبال طرطوس، كنا نتجول بين القرى فنفحص المرضى ونعالج الحالات البسيطة ونحول الحالات الأخرى إلى المختصين، كانت قرى علوية لفت نظري  فيها شدة الفقر وانعدام البنية التحتية حتى أن بعض القرى لم نستطع الوصول إليها بالباص، كما لفت نظري ندرة الرجال فكنت لا ترى إلا نساءً وأطفالاً.  لقد أفقر نظام الأسد العلويين وبدلاً من أن ينمي مناطقهم زراعياً وصناعياً وسياحياً أغرقهم بالفقر حتى يصبح حلم الشاب منهم أن يحظى بوظيفة في دمشق أو في إحدى المدن الكبرى وهي غالباً وظيفة في أحد الأجهزة الأمنية الثلاثة عشر التي تعدّ على السوريين أنفاسهم.  

اليوم بعد أن ضحى النظام بمئات ألوف  العلويين على مذبح بقائه في الحكم وبعد أن دمر البنية التحتية لسورية مما جعلها عاجزة عن مواجهة حرائق الغابات، طبيعية كانت أم مفتعلة، هاهو السواد الرمزي الذي غطى مناطقهم حزناً على قتلاهم يتحول إلى سواد مادي يغطي حقولهم وقراهم بالرماد.

 لقد ارتضت الغالبية الساحقة من العلويين  منذ أكثر من ستين عاماً أن تكون أداة قتل بيد نظام الأسد ضد بقية السوريين وخصوصاً ضد الأكثرية السنية، بعض الأنذال من السنة ارتضوا ذلك أيضاً، لكن هذا لا يُخفي طائفية النظام وأنه يقوم على الفكرة التالية: "أيها العلويون  يجب أن نظل ممسكين بالحكم ولو ذبحنا ملايين السنة لأنهم إذا وصلوا إلى الحكم سيذبحوننا" كل الدم الذي أريق في سورية منذ استلم نظام الأسد الحكم سببه هذه القناعة!

صحيح أن إجرام بشار مزق الأكثرية السنية في أصقاع الأرض، لكنها لم تزل أكثرية وهي لن تستسلم للتهجير والتغيير الديمغرافي، وإذا كانت تعاني اليوم من هول الصدمة ومن معالجة ما تركته فيها عقود القهر من عيوب  تعيق عملها الجماعي، فإنها تتعافى من صدمتها وعيوبها يوماً بعد يوم، وهي تلم شتاتها وتنظم صفوفها وتجمع أوراقها لتخوض معركة بقاء فرضت عليها، معركة عسكرية وسياسية وحقوقية واجتماعية واقتصادية.

لقد تمكن نظام الأسد من النجاة حتى اليوم بدعم من نظام بوتين المافياوي ونظام الملالي الطائفي ونتيجة ظروف إقليمية  ودولية مرحلية غير قابلة للاستمرار. ولئن كانت روسيا وإيران باقيتان كدولتين فإن نظامي بوتين والملالي المحاصرين بمشاكلهما الداخلية والخارجية لن يبقيا إلى الأبد، وعلى المدى الطويل لن يحمي الطائفة العلوية إلا تقديم ما يعيد تأهيلها وطنياً لتصبح جزءاً من النسيج السوري وأول ذلك توبتها عن دعمها لنظام الإجرام والاعتراف بخطأها التاريخي والوطني عندما ارتضت أن تكون أداة قتل بيد النظام ضد بقية السوريين.

إن حرائق الجغرافيا تترك المساحات الخضراء مجللة بسواد الدمار والرماد، كذلك حرائق التاريخ تترك صفحاته مسطرة بسواد الخزي والعار. وإذا كانت آثار حرائق الجغرافيا تُعالج بزرع ما احترق، فإن آثار حرائق التاريخ تُعالج بكتابة صفحات جديدة يعترف فيها المخطئ بذنبه ويقدم المجرمين للمحاسبة ويطلب الصفح والغفران قولاً وعملاً. إن الأكثرية لن ترضى بالذل والضيم بعد اليوم لكنها في الوقت نفسه تدرك ألا بديل عن التعايش بين السوريين وهي لا تريد أن تمسح أي طائفة من على الخارطة السورية ليس لأن العالم لا يسمح لها بذلك ولكن لأن دينها وأخلاقها ووطنيتها لا  تسمح لها بذلك. ولأن الأكثرية راسخة في تجربتها الحضارية القائمة على استيعاب الجميع، ولأنها لاتريد أن تجعل مستقبل سورية رهينة لماضيها، دون أن تنسى هذا الماضي حتى لا يتكرر مرة أخرى، فهي جاهزة لفتح صفحة جديدة مع العلويين ولكن بعد التوقف عن دعم النظام والاعتراف بالذنب ومحاسبة المجرمين. قد يقول البعض هذا نفخ في قربة مثقوبة، قد يكون كذلك لكنها كلمات لله والتاريخ.

Share