cover

صبّار دمشق

في عام 2012 أرسل نظام الأسد جرافاته ليقتلع آلاف أشجار الصبار من منطقة المزة  عقوبة لدمشق التي بدأت تثور عليه. كتبت يومها متألماً: متى تصبح دمشق مثل صبّارتها يكنّ داخلُها الحلاوة والطراوة لمن يحبها ويحترمها ويُظهر خارجُها الشوك والقسوة لمن يريد بها سوءاً. مرّت في خاطري بساتين الصبار المقتلعة وأنا أقرأ كتاب (دمشق ذاكرة الوجوه والتحولات) للأستاذ محمد منصور.  الكتاب يظهر أن دمشق ليست تاجراً منافقاً وشيخاً متزلفاً كما حاول نظام الأسد أن يصورها طوال فترة حكمه. بل تاريخها مليء بالزعماء والعلماء والأدباء أصحاب العقول الراجحة والمواقف المشرفة.

 يتحدث الكاتب عن الأمير عبد القادر الجزائري الذي اختار دمشق منفى له بعد أن سجنه الفرنسيون ولعب فيها دوراً علمياً واجتماعياً وسياسياً بارزاً فدرّس في الجامع الأموي وساهم بفضل علاقاته مع أعيان دمشق وعلمائها والقنصليات الأجنبية في آن معاً في إطفاء ما عرف بفتنة 1860 بين المسلمين والمسيحيين في دمشق.

ويتحدث الكاتب عن يوسف العظمة الذي خاض معركة ميسلون وهو يوقن أن النصر لن يكون حليفه لكنه رفض أن يقول التاريخ إن الفرنسيين دخلوا دمشق من دون أن يقاومهم أحد. ويصحح الأستاذ محمد منصور فكرة شائعة عند الكثيرين وهي أن معركة ميسلون كانت نزهة عسكرية وتظاهرة غوغائية تفتقر إلى التخطيط العسكري فيوضح أن يوسف العظمة الذي كان رئيس أركان حرب القوات التركية في حرب الدردنيل في الحرب العالمية الأولى وكان يتمتع بخبرة تلقاها من أرقى المدارس العسكرية في اسطنبول وبريطانيا خطط للمعركة بحيث توقع في العدو أكبر قدر من الخسائر وينقل عن مؤرخين ما ذكرته الوثائق الفرنسية من أن الموقعة لم تكن سهلة والمقاومة فيها كانت جبارة وقد سقط فيها كثير من الضباط وصف الضباط الفرنسيين.

ثم يتحدث الكاتب عن فارس الخوري وكيف دخل المسجد الأموي خلال الانتداب الفرنسي خلال صلاة الجمعة واستأذن الإمام بعد نهاية الصلاة ليصعد إلى المنبر ويخطب بالمصلين:" إذا جاءت فرنسا للدفاع عن مسيحي سورية والشرق فنحن لسنا بحاجة لحمايتها لأننا في وطننا أعزاء، وإذا تحججت بحمايتنا من المسلمين فإنني كمسيحي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" فحمله المصلون على أكتافهم وخرجوا به إلى أزقة دمشق التي صنعت منه زعيماً خالداً في التاريخ السوري.

وعن الشيخ الفقيه علي الطنطاوي يسهب الكاتب في الحديث عن حياته ومساهماته العلمية والأدبية والقضائية والتشريعية في تاريخ دمشق ويتحدث عن واحدة من أكثر اللحظات تأثيراً في حياة الطنطاوي عندما شاهد قاسيون بعد طول غياب في آخر زيارة له لدمشق عام 1981 فينقل ما كتبه الطنطاوي في وصف تلك اللحظة " فقلت مقالة بلقيس (كأنه هو) الجبل الذي يلوح لي جاثماً على حافة الأفق هو قاسيون وهذه المنازل الماثلات صفوفاً كالأولاد المدللين في حضن الأب الحاني هي أحياء السفح: الأكراد والصالحية والمهاجرين، وهذه العمد البيض السامقة التي تشبه إصبع المتشهد يشير بكلمة الحق نحو السماء هي مآذن المساجد"

ويستعرض الكاتب شيئاً من حياة نزار قباني (الذي طبع شعره بطابع مدينته دمشق التي أحب والتي حملها في حله وترحاله) وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع خط نزار الفكري والأدبي إلا أن دمشق كانت حاضرة في أشعاره وكتاباته وينقل عنه وصفه لتراجيديا التغيير والتشويه والعبث الذي تعرضت له بالقول: "دمشق .. دمشق .. ياشعراً على حدقات أعيننا كتبناه، وياطفلاً جميلاً من ضفائرنا صلبناه ...جثونا عند ركبته، وذبنا في محبته .. إلى أن في محبتنا قتلناه" لم يكن نظام الأسد راضياً عن نزار القباني ومرت العلاقة بينهما بالكثير من محطات الشد والجذب بسبب مواقف نزار وأشعاره السياسية.

ثم يتطرق الكاتب إلى ما كتبه سامي الجندي عن دمشق. فالجندي وهو من رواد البعث الأوائل لم يكن من أبناء دمشق لا مولداً ولا نشأة لكنه درس طب الأسنان في جامعتها وكان كثير التردد عليها بسبب نشاطه السياسي ويعتبر الكاتب ما كتبه الجندي عن دمشق بالغ الأهمية في فهم سر المدينة التاريخي من جهة وتحليل موقفها من حزب البعث من جهة أخرى. ينقل الكاتب عن سامي الجندي وصف دمشق في كتابه (البعث):

"إنها مدينة التاريخ العربي لا تسلس قيادها إلا لعاشق على قدّ فتنتها: مدينة الانتظار تتأنى وتتريث ثم تتمنع فترفض أو تقبل. رفضها يعني استحالة الاستمرار، قبولها يعني دخول التاريخ من أوسع أبوابه. لم يصبح الإسلام دولة عظيمة إلا حينما حملت رايته، وما كان لفكرةالقومية العربية شأن لولا أنها آمنت بها.  هي عاصمة الشرق الأوسط عبر التاريخ تظل تنبض بسر الحياة وسرها رغم ما حاق بها من نكبات.

ليس سهلاً أن تنتزع منها تقاليدها أو تنتزعها من ماضيها القديم لتقنعها بنظرة جديدة للحياة، رغم أنها عطشى لكل جديد، تتقبله إذا كان صادقاً. طبيعتها طبيعة  مؤمن حقيقي يبطئ حتى يقتنع، فإذا فعل تشبث فعاش بعقيدته الجديدة ولها. سهل قياد دمشق وصعب، إنها تعيش دائماً على انتظار إيمان كبير كي تحقق فيه ومعه وجودها ومعناها التاريخي، تظنها ماتت فما تجس نبضها حتى يفاجئك بطاقة عجيبة على الحياة، تهدأ حتى لتظن أنها قبر ثم تنتفض فتجد الطغيان تحت قدميها"

يقول الكاتب(آمن الجندي بفرادة دمشق المسكونة بهويتها الإسلامية والمتعطشة للجديد بلا تعصب) وينقل عنه ( في هذا النص المسكون بالوجد والأناقة التعبيرية الآسرة، يقول سامي الجندي بلهجة العارف:"ما كنت أعرف أن دمشق تتأنق هكذا عبر القرون، بالمئذنة والمؤذن والمحراب والإمام والمنبر والخطيب، وصحن الجامع وآلاف المصلين يركعون معاً ويسجدون معاً. يبتهلون ويدعون معاً، لا يتفرقون إلا حين ينصرفون، ثم يلتقون  في الأسواق القريبة، كل على باب دكانه (يسترزق) ثم صباح آخر شبيه بذاك. كأنهما واحد لولا اختلاف الحر والقر. وجوه أمائرها بسملة وحوقلة كأنما اختلطتا بالنسيج والعروق")

وينقل الكاتب عن الجندي تفسيره لسبب رفض دمشق لفكر حزب البعث: "لم يدرس البعث بناء دمشق الاجتماعي الذي تكون خلال آلاف السنين فبات إرثاً عضوياً. قنع البعثيون أن دمشق لا يمكن أن تكون بعثية فأقاموا بينهم وبينها جداراً من المستحيل" ويلخص الكاتب محمد منصور رأيه بكتابات الجندي عن دمشق بالقول (يقول هذا البعثي باختصار: ليس من السهل خداع الدمشقيين بالشعارات البراقة، وليس من السهل على دمشق أن تتخلى عن تقاليدها وإرثها لحزب لم يفهم بنيتها. المدينة التي ترتبط بالإسلام ارتباطً عميقاً تمتد جذوره إلى الأمويين وما قبل دولتهم، وجدت في هذا الحزب قطيعة مع تراثها فنأت عنه. ثم تعمقت القطيعة الفكرية والايديولوجية  مع الحزب فظلت دمشق عصية على الإيمان بفكره واحترام ممارساته التي اختلط فيها العداء الريفي للمدينة بالأمني والسياسي لاحقاً، وإن حُكمت بالقوة باسم هذه الايديولوجية لعقود!)

هؤلاء الرجال الذين يشكلون جزءاً من تاريخ دمشق الحديث غُيبت سيرهم وإنجازاتهم عن الجيل الذي نشأ في كنف نظام الأسد بل إن من عاصر  النظام منهم كان مُحارباً مُبعداً في حياته كالطنطاوي والقباني والجندي ومن مات قبل ذلك حاول النظام إخفاء آثاره حتى يفصل تاريخ دمشق عن حاضرها فقصر الأمير عبد القادر الجزائري في دمّر كاد أن يتحول إلى مطعم وملهى لولا تدخل المفوضية الأوربية التي قامت بشرائه وترميمه، وبيت يوسف العظمة في المهاجرين كاد أن يتعرض للهدم لولا تدخل بعض الأفاضل في اللحظة الأخيرة فصدر قرار بإبقائه وتحويله إلى متحف ليوسف العظمة لكن القرار لم ينفذ وما زال البيت مغلقاً حتى اليوم.

وأخيراً فإن دمشق التي قدمت  في الثورة عشرة آلاف معتقل وألفي شهيد على أقل تقدير، تنتظر يوم الخلاص من العقود السوداء التي خيمت عليها لتستعيد روحها وألقها وتستأنف دورها الحضاري ليس في  بناء سورية الجديدة وحسب وإنما في بناء مشرق جديد.

Share