خواطر 2020-2
لنا في بلادنا أصل وماض وتاريخ وجذور، لنا أجدادنا الذين حاربوا المستعمر وآباؤنا الذين واجهوا المستبد وامتلأت بهم سجونه، وهم من بنوا الإنسان وأنشأوا العمران مدرسين ومهندسين وأطباء وتجار ومزارعين وموظفين ومهنيين. لنا في بلادنا أهل وبيوت وحارات وبساتين وتراب يضم أحب الناس إلينا. لنا جبل قاسيون الذي تمرغنا أطفالاً على سفوحه وبردى الحبيب والغوطة وأصوات المآذن. لن ننسى أرضنا ولن نرضى الاقتلاع والتجريف والتغيير الديمغرافي ولن نسلمها للأغراب ولن نستسلم للغربة والحزن. لكن العودة تقتضي أن نجمع صفوفنا ونوحد كلمتنا وأن يبحث كل واحد منا عن الطريقة التي يساهم بها في تخليص بلاده من المستبدين والمحتلين كلٌّ من موقعه وحسب ظروفه وإمكانياته. تضيع البلاد عندما يضيّعها أهلها وتموت عندما يموت حبها في قلوبهم.
لا يرتفع البناء قبل ارتسام صورته في عقول بناته، ولا تخرج الرواية الخالدة قبل ارتسام موضوعها الكلي في عقل كاتبها حتى لو لم يعرف التفاصيل. كذلك الدول، كل دولة في عالم اليوم كانت رؤية في عقول رجال آمنوا بإمكان تحقيقها ثم خاضوا الأهوال ليضعوا أسس البناء وموضوع الرواية ثم تركوا للتاريخ من بعدهم أن يرفع البناء ويكتب الرواية.
الأول لديه موهبة في التواصل وكسب القلوب والعقول، والثاني بارع في التنظير وإدراك الكليات انطلاقاً من الجزئيات، والثالث مبدع في الإعلام وإيصال الرسائل، والرابع مخطط استراتيجي من الطراز الأول، والخامس يبرع في التنفيذ والإنجاز ومتابعة المهام، والسادس لا يشق له غبار في التعليم والتدريب ورفع الوعي، والسابع معروف بالقدرة على التحفير ورفع الهمم، والثامن محلل سياسي دقيق، والتاسع خبير اقتصادي محترف، والعاشر والحادي عشر والثاني عشر .... إذا عملوا معاً في مؤسسة واحدة بحيث يكمّل بعضهم بعضاً، كان ذلك المزيج المتفجر طاقةً وإبداعاً وإنجازاً، المزيج الذي لا يقف في وجهه شيء والقادر على فعل المستحيل. هذا أكثر ما نحتاج إليه كسوريين اليوم إذا أردنا أن ننتقل من ترديد شعارات الثورة في الحرية والعدالة والكرامة.إلى بناء دولة تحقق هذه الشعارات.
مهما كتبت الصحف الروسية عن بشار ومهما غيرت روسيا من خطابها تجاهه فإن نصف الشعب السوري على الأقل يعتبر روسيا الاتحادية بقيادة بوتين شريكاً أساسياً في الجرائم التي ارتكبها بشار بحق السوريين. روسيا شريكة في قتل مئات ألوف السوريين وتدمير بلادهم إما مباشرة بطائراتها وأسلحتها وضباطها وجنودها ومرتزقتها، أو بشكل غير مباشر من خلال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي اللامحدود الذي وفرته لعصابات بشار. لا يعني ذلك عدم التفاوض مع الروس من أجل خلاص البلد، لكن الجهة السياسية التي تزعم أنها تمثل السوريين الأحرار ما لم تحمّل روسيا المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية عن الجرائم التي ارتكبت بحق السوريين في السنوات التسع الأخيرة فإنها لا تفرط بحقوق السوريين وحسب وإنما تفرط بورقة ضغط رئيسية نحتاج إليها لإرغام الروس على الالتزام بحل يحقق الحد الأدنى من العدالة والكرامة للسوريين، الحد الذي من دونه لا يمكن لأي حل أن يكون واقعياً ومقبولاً من أكثرية السوريين وقابلاً للاستدامة.
الأوبئة لا تغير العالم نحو الأفضل. عزائم الرجال والنساء هي التي تفعل وما لم تكن لدينا رؤية للعالم ولأوطاننا وفهم للسنن الربانية في التغيير وعمل وإصرار على تسخير هذه السنن لتحقيق رؤيتنا فلن نستفيد شيئاً من التغييرات العاصفة الذي أحدثها وسيحدثها وباء الكورونا، بل سيستفيد منه أعداؤنا وسيخرجون من الأزمة أكثر قوة في حين سنخرج أكثر ضعفاً. الأوبئة تجعل عيشنا على الهامش كشعوب مكلفاً جداً وإذا لم ندرك ذلك ونعمل بمقتضى هذا الإدراك فمصيرنا الفناء والاستبدال بقوم أشد بأساً وشكيمة وأشد حباً للحياة الحرة الكريمة.
المعارضة والنظام والنبوءة ذاتية التحقق self- fulfilling prophesy
في تجربة شائعة في علم النفس تم تعريف مجموعة من الطلاب لمجوعة من الأساتذة على إنهم طلاب أغبياء ومشاكسون، ثم قام كل واحد من الأساتذة على حدة بإعطائهم درساً على أساس هذا التصور، ثم طُلب من الطلاب والأساتذة تقييم التفاعل بين الطرفين فكان التقييم سلبياً وكانت الدروس مليئة بالمشاحنات ولم يستفد الطلاب كثيراً. نفس المجموعة من الطلاب تم تعريفها لمجموعة أخرى من الأساتذة على إنهم طلاب أذكياء ومؤدبون، ثم قام كل واحد من الأساتذة على حدة بإعطائهم درساً على أساس هذا التصور، ثم طُلب من الطلاب والأساتذة تقييم التفاعل بين الطرفين فكان التقييم إيجابياً وذكر الطلاب أنهم استفادوا أكثر وأن الأساتذة عاملوهم بشكل أفضل. الطلاب لم يتغيروا وإنما نظرة الأساتذة هي التي تغيرت فتغيرت المعاملة وتغيرت النتيجة.
تعبر هذه التجربة عن ظاهرة تسمى النبوءة ذاتية التحقق self- fulfilling prophesy وهي أن يضع الإنسان في ذهنه افتراضاً ما، ثم يتصرف على أساسه، فيؤدي تصرفه إلى تحقق هذا الافتراض.
الطغاة يفترضون أن الشعوب لا تليق بها الحرية فيحرمونها ممارسة الحرية فتضمر عندها المهارات التي تحتاج إليها لممارسة الحرية فيستخدم الطغاة هذا الضمور ليؤكدوا صحة افتراضهم وهكذا يتشكل اللولب المعيب النازل vicious download spiral؛ مزيد من الحرمان يؤدي إلى مزيد من الضمور الذي يعطي الطغاة المبرر لمزيد من الحرمان، وهكذا تصل الشعوب إلى القاع ولا تجد بداً من الثورة.
بعض (المعارضين) يحملون افتراض الطغاة ذاته وإن كانوا يتغنون بالثورات ويزعمون إيمانهم بالشعوب، هم يفترضون أن الشعب ليس مؤهلاً لتعاطي السياسة، فيتجهون إلى كسب القوة السياسية (من فوق إلى تحت) باكتساب الشرعية من الدول، بدلاً من أن يكتسبوا القوة السياسية (من تحت إلى فوق) فينظموا الشعب الثائر ويوجهوا طاقته لتكون إرادته رقماً في أي حل قادم، وهكذا مع الوقت تتسع المسافة بينهم وبين الشعب، ويزداد اعتمادهم على الشرعية الخارجية وقابليتهم لتقديم تنازلات كانوا في غنى عنها لو نظّموا الشعب من حولهم واستمدوا شرعيتهم منه.
الحديث عن قرب الخلاص من بشار لا يعني خلاصنا منه، وخلاصنا منه لا يعني خلاصنا من منظومته. خلاصنا الحقيقي كسوريين مرتبط بقدرتنا على بناء منظومة سياسية عسكرية مدنية تلبي تطلعاتنا إلى الحرية والعدالة والكرامة وتكون بديلاً عن منظومة بشار القائمة على الاستبداد والفساد.
في الأيام الأولى للثورة قال لي أحدهم متحدياً "هؤلاء الذي يهتفون (حرية) أتحداك إن سألتهم عن معناها أن يعطوك تعريفاً للحرية" فأجبته " وأنا أتحداك أن يتعلموا ما هي الحرية وكيف يمارسونها بمسؤولية من دون هامش حرية" كان لا بد من انتزاع هامش ما مهما كان الثمن، وقد انتزعناه!
ظلام الاستبداد الذي خرجنا منه بعد عقود جعل نور الحرية مؤلماً فدمعت العيون واحمرت وغابت الرؤيا وتشوشت لكن العيون تستعيد عافيتها والرؤيا تتضح بالتدريج، والحوارات تنضج يوماً بعد يوم، والشعور بالحاجة إلى التنظيم والعمل المشترك وامتلاك المهارات والأدوات اللازمة لذلك يتصاعد باستمرار.
تسع سنوات في تاريخ الشعوب ليست بالفترة الطويلة لكن وطأتها كانت كبيرة علينا لما صاحبها من ثمن الدم الهائل الذي أراده أعداؤنا رادعاً لنا ليعيدنا إلى الظلام في حظائر الطغاة فخابوا وخسئوا، لأن الله خلق الشعوب لتحيا لا لتموت تحت أحذية الظالمين.
واجب الوقت أن ينظم السوريون أنفسهم في مبادرات ومؤسسات اجتماعية وسياسية واقتصادية توحد جهودهم وتوجه طاقاتهم وتمكّن العازفين الماهرين الفرادى من عزف السيمفونيات الجماعية العظيمة وإنني لمؤمن بهذا الشعب الرائع وقدراته كإيماني بخالقه العلي العظيم.
ليست لدي أي أوهام في أن الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه كسوريين حتى ننظم صفوفنا في كيانات سياسية تمكّن الشعب من التعبير عن إرادته وتنقلنا من المفعول به إلى الفاعل هو طريق طويل جداً وشائك جداً وأن تحدياته تكمن في أنفسنا قبل أن تكون في أعدائنا، لكن السير في هذا الطريق هو خيارنا الوحيد إذا كنا مؤمنين حقاً بأننا نستحق الحياة الحرة الكريمة، هذا طريق الشرف والعزّ سواء نجحنا، أم فشلنا – بعد بذل الوسع – فتركنا تجربة تقرّبنا وتقرّب الآخرين من النجاح، ولا عزاء لليائسين!
المشكلات لا تحل بكلمات جديدة وإنما بأفكار جديدة.
القيود التي نريد الفكاك منها لم يصنعها أعداء حريتنا بحماسة عابرة وجهود فردية مبعثرة، بل زردوها بدأب عظيم وجهد جماعي منظم، ولا نستطيع تحطيمها إلا إذا تفوقنا عليهم في الدأب والعمل الجماعي المنطم.
لا نستطيع أن نمارس حريتنا في قيادة السيارة ما لم نمارس الانضباط مرتين: مرة لتعلم القيادة، ومرة لممارسة ما تعملناه بعيداً عن انفعالاتنا. ونحن نشكو من الصعوبات التي نواجهها في العمل الجماعي علينا أن نتذكر هذا الرابط بين الحرية والانضباط؛ نحن أحرار في ممارسة العمل الجماعي وإنجاز مشاريع جماعية ناجحة بمقدار ما نكون منضبطين في تعلم المعرفة والمهارات والأدوات اللازمة للعمل الجماعي ومنضبطين في تطبيق ما تعلمناه بعيداً عن انفعالاتنا خصوصاً في أجواء الملل وتراكم الإحباطات.
يتفق الصغار عندما يتفق الكبار، إلى أن تصير النفوس كباراً.
تمرين عقلي بسيط مؤلم لكنه ضروري لتوجيه البوصلة الأخلاقية. كلما هالتني عقبات الطريق الذي اخترته في مواجهة الطغمة الأسدية وتخليص سوريا الحبيبة منها وبناء دولة العدل والقانون، استبدلت في مخيلتي وجوه شهداء التعذيب بوجوه أبنائي وجددت عهدي أمام الله ألا أحيد عن هذا الطريق أو أهلك دونه.
قامت الثورات في البلاد العربية لأن الأكثرية غُيبّت عن المشاركة السياسية بفعل القمع والسجون، بعد الثورات ما زالت الأكثرية مغيَّبة عن المشاركة السياسية لكن هذه المرة بسبب افتقارها إلى أخلاقيات العمل الجماعي ومهاراته، لا يوجد ما يدعو إلى الإحباط فاكتساب هذه الأخلاقيات والمهارات يلزمه وقت وجهد وصبر، لكنه طريقنا الوحيد لتحرير أوطاننا من الاستبداد والاحتلال وبنائها من جديد.
أن نتعلم كيف نطبق ما تعلمناه نظرياً على أرض الواقع لا يتم إلا من خلال التطبيق. هنا يحدث الانتقال من مقعد الدرس المريح إلى مواجهة نفوس البشر بإيجابياتها وسلبياتها وتناقضاتها وانفعالاتها وإحباطاتها وإبداعاتها، أول تلك المواجهات وأكثرها تطلباً للصدق والجهد والصبر وأكثرها ارتباطاً بالنجاح والفشل، هي مواجهة الإنسان مع نفسه، فهماً لها وتحكماً بها.
تريدون مساحة حرية تعيشون فيها بكرامة؟! خذوا الفوضى والحروب ..
تريدون حياة آمنة؟! ليس لكم إلا حياة القطيع..
هذه هي رسالة )الثورات المضادة( لكل من فكر أن يرفع رأساً في هذه المنطقة المبتلاة بفراعين وقوارين (جمع قارون) من بقايا عصور الظلام..
الجواب على )الثورات المضادة( يكون بأن ينظم طلاب الحرية والكرامة أنفسهم في كيانات تنقل الآلاف من هامش العطالة إلى ساحة الفعل وتشرك أوسع شريحة من الناس في صنع القرارات التي تمس حياتهم ومستقبلهم. يحتاج ذلك إلى مفاهيم جديدة تعيد تعريف السياسة لتصبح تحقيق الخير العام، وإلى أدوات جديدة تستثمر ثورة الاتصالات، بذلك نرد كيد أعداء الحرية في نحورهم، ونثبت أن الجمع بين الأمن والعيش بكرامة ممكن. هذه مهمتنا وليست مهمة أي جهة أخرى.
أحياناً نحتاج إلى التذكير بالبديهيات ..
لا يُقاس التحضر والرقي بالمكان الذي يولد فيه الإنسان أو العائلة التي ينتمي إليها لأن هذه الأمور لم يخترها وليس مسؤولاً عنها. مقياس التحضر والرقي هو أخلاق الإنسان وصدقه ونظافة يده لأن هذه هي الأمور التي يختارها ويكون مسؤولاً عنها.
بناءً على ذلك، كل من ساهم في ترسيخ السلطة الأسدية بنفاقه وكذبه ووصوليته هو سافل ومنحط، سواءً كان تاجراً من أكبر عائلة في دمشق أو حلب، أو رجلاً من أصغر قرية في سورية. كل مقياس للتحضر والرقي غير النزاهة والأخلاق هو التخلف والانحطاط بعينه.
يقول العالم الفرنسي برجسون (الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يستخرج من نفسه أكثر مما هو موجود فيها) فكل خبرة فكرية أو شعورية أو سلوكية أو حسية تضيف إلينا شيئاً، وهذه الإضافة ليست جامدة كمن يضيف لبنة إلى جدار وإنما تفاعلية تغير بنية العقل باستمرار، كمن يكتشف حقيقة جديدة فتغير نظرته إلى أشياء كثيرة دفعة واحدة. هذا الاستعداد لانكشاف آفاق وإمكانيات جديدة في كل لحظة لا يملكه إلا الإنسان، وهو من معاني (روح الله) التي نفخها فيه، وهو استعداد لا تتفجر ممكناته إلا بالحرية، وبأحرار شجعان يختبرون الأفكار في ساحة التجربة والعمل. هؤلاء الأحرار الذي يؤمنون بأنفسهم وشعوبهم يستخرجون منها أكثر مما هو موجود فيها وهم من يحدثون الانعطافات الكبرى في التاريخ وفيهم تتجلى معجزة الخالق وروحه، (ونفخنا فيه من روحنا).
يعتقد كثير من السوريين أن الحديث في السياسة مضيعة للوقت لأنهم لا يستطيعون التأثير في القرارات السياسية التي تمس بلدهم ومستقبلهم. في حين أن الحقيقة هي العكس تماماُ؛ لأن الكثير من السوريين لا يعملون على فهم الواقع السياسي والبحث في طرق التأثير فيه هم لا يستطيعون التأثير في القرارات التي تمس بلدهم ومستقبلهم.
ليست مهمة القائد أن يأتي بالأفكار الرائعة دائماً، وليس شرطاً لنجاحه أن يكون أقدر من غيره على الإبداع، فقد يوجد في فريقه من هو أكثر منه إبداعاً ومهارة في مجال تخصصه. مهمة القائد أن يوجد البيئة المناسبة التي تشجع الآخرين على الإبداع والتي تجد فيها أفكارُهم الرائعة ومبادراتُهم الخلّاقة طريقَها إلى التنفيذ. كم من أفكار خلّاقة وئدت، وفرص رائعة ضُيعت، لأن من يقود يستمد أمانه الداخلي من الشعور بالتفوق على الآخرين، لا من قدرته على تمكينهم من التفوق.
قال لي أحد المتصدرين لمشهد المعارضة: شو ما عملنا الناس مو رضيانة ..
لا ترضى الناس عندما ترى أن من يتحدث باسمها لا يحقق مصالحها. وهنا يوجد احتمالان: إما إنه عجز فعلاً عن تحقيق مصالح الناس، أو إنه عجز عن إقناع الناس أنه يحقق مصالحهم. العجز في كلتا الحالتين يقتضي أن يتراجع العاجز إلى الوراء ويفسح المجال لغيره عسى أن يكون أقدر.
الناس هنا هم حاضنة الثورة التي بذلت أغلى ما لديها ليصبح لها صوت وكرامة وليتحدث باسمها من يحرص على مصالحها ويحترمها ويشتري رضاها.