cover

خواطر 2020-6

الصدق والشجاعة

الأفكار في تدفق مستمر وكل لحظة في حياتنا هي قرار بتبني هذه الفكرة أو تلك وفعل مبني على هذا القرار، وإنجازنا اليومي هو حصيلة الآلاف من هذه القرارات والأفعال الصغيرة.

ولأن مصب النهر هو الذي يحدد مجراه، كلما كانت الصورة النهائية لدورنا في هذه الحياة واضحة في أذهاننا توجه دفق الأفكار والقرارات والأفعال لا شعورياً نحو تحقيقها. نحتاج إلى صفتين  لكي نصل بهذا الدفق إلى حدّه الأعلى الذي يحقق لنا أكبر قدر من الفعالية والسعادة معاً: الصدق لكي نعرف بالضبط ماذا نريد، والشجاعة لكي نعمل بمقتضى هذه المعرفة.


من السوري المقهور إلى السوري الجديد

لن نستطيع أن نبني سورية الجديدة ما لم يحدث التحول في داخل كل واحد منا من نفسية السوري المقهور فاقد الثقة بنفسه وشعبه المثقل بمشاعر الدونية المكتفي بجلد الذات ولعب دور الضحية الكافر بقدرة السوريين على العيش الحر الكريم إلى نفسية السوري الجديد المولود من رحم الثورة الذي يحمل طموحها وعنفوانها وجرأتها وأملها وثقتها بالله أولاً ثم بالسوريين وأهليتهم للعيش الحر الكريم.


عرفوا أن الربيع العربي إذا نجح فسيفضح عطر أزاهيره نتن عروشهم البالية فحولوه بالثورات المضادة شتاءً زمهريراً لكن لعنة الدم الذي سفكوه أبت إلا أن تفضحهم ففاح نتنهم ذلاً وانطباحاً وصغاراً على أعتاب الصهاينة.


شهدت وسمعت عن حالات أفسد فيها انفعال لحظة عمل عام وأكثر، في بعضها لم يفسد الانفعال عمل صاحبه فقط وإنما عمل فريق بأكمله. صدق الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.


إذا كان المشاركون في اللجنة الدستورية من مناطق النظام يملكون الارادة الحرة في كتابة الدستور، فلماذا ثرنا على النظام والناس تحت حكمه يتمتعون بالارادة الحرة؟ وما الحاجة إلى انتقال سياسي؟ الانتقال يكون من وضع إلى وضع مختلف، إذا كانت الحرية متحققة في مناطق النظام فإلى ماذا ننتقل؟

أما إذا كان المشاركون في اللجنة الدستورية من مناطق النظام لا يملكون الإرادة الحرة في كتابة الدستور فكيف تقولون إن الدستور الذي تريدون كتابته - أو تعديله - يعبّر عن إرادة السوريين؟ كفى استغباء للسوريين واستخفافاُ بعقولهم!!


غريب ذلك الاعتقاد بأن الفعل السياسي يعني المشاركة في أي عملية سياسية. المشاركة في محلها فعل سياسي والمقاطعة في محلها فعل سياسي أيضاً. أما من يرددون: يجب ألا نترك الكرسي فارغاً حتى لا يجلس عليه غيرنا، أنتم محقون ولكن بشرط؛ أن تميزوا بين الكرسي والخازوق!


يتجلى (العمل الخفي لغرائز الانحطاط) كما يسميها نيتشه بإلباس تلك الغرائز  ثوب الفضيلة فيصبح الخنوعُ صبراً والجبنُ حكمةً والجمودُ ثباتاً والكسلُ زهداً والذلُ تواضعاً والترددُ ورعاً وتأييدُ الظلم تجنباً للفتنة وهكذا تنقلب الرذائل إلى فضائل ويموت في النفس كل ما يقتحم ويرفع ويدفع ويواجه ويغامر، ويعشعش فيها كل ما يهبط ويسكن ويتردد ويستسلم وينزوي. تلك النفوس هي البيئة المثلى  التي يحيا فيها الطغاة  وتموت المجتمعات وتخرج من التاريخ.


يجب أن نستفيد من هزائم الماضي، لكن عدم إدراك الاختلافات بين الماضي والحاضر يحرم  عقلنا الواعي من رؤية الفرص التي يحملها الحاضر والاستفادة منها، ويبرمج عقلنا الباطن على التصرف كمهزومين.


لماذا لا يتجرأ حكام أوروبا على الاستبداد بشعوبهم؟ لأن رفض الاستبداد يرسخ عميقاً في وجدان تلك الشعوب ويشكل جزءاً من موروثهم الثقافي الذي دفعوا ثمنه حربين عالميتين راح ضحيتهما مئات الملايين من القتلى والجرحى. إن الدماء التي تجري في بلادنا اليوم تغير موروثنا الثقافي وترسّخ عميقاً في وجداننا ووجدان الأجيال القادمة رفض الاستبداد وتهيئنا لولادة عظيمة بحجم تلك الدماء فالكرامة التي دُفع من أجلها كل هذا الثمن يصعب على الأجيال القادمة أن تبيعها لأحد.


سألني متحدياً: لو علمتم أن الثورة ستؤدي إلى كل هذا الخراب هل كنتم ستثورون؟ أجبته: لو كان العلم بالغيب ممكناً لما كنا بحاجة لثورة، لأن آباءنا ما كانوا ليخنعوا لعصابة الأسد ستين عاماً لو علموا أن خنوعهم سيمكّن لهذه العصابة بحيث  يؤدي استعادة البلاد التي اغتصبوها إلى كل هذا الخراب!


العدمية السياسية

العدمية السياسية أن تمشي في طريق تعرف أنه مسدود، وأن لا تستحي من القول بأنه الطريق الوحيد ولا بديل.

العدمية السياسية أن تصبح منفّذاً لإرادة الدول مفعولاً به لا فاعلاً وأن تتواصل مع السوريين لتسويق إرادة الدول إليهم بدلاً من أن تكون مهمتك تسويق إرادة السوريين إلى الدول.

العدمية السياسية أن  تذهب إلى الدول لتناقش مسائل وطنية دون أن يكون هناك توافق وطني على هذه المسائل من قبل من يفترض أنك تمثلهم.

العدمية السياسية أن تكون في صراعات شخصية مع أقرب الناس إليك في المؤسسة السياسية التي تمثلها وأن تنعكس هذه الصراعات تخبطاً وسوء أداء  يضر بالقضية التي يفترض أنك تدافع عنها لا عن مصالحك.

 العدمية السياسية أن يملأ التبجح أوداجك فلا تعي عدميتك وتتوهم أنها واقعية وذكاء وتتهم من لا يصفق لك بأنه لا يدرك اللعبة ويرفع شعارات براقة.


كل من يقول إن القضية السورية خرجت من أيدي السوريين وأصبحوا لا يملكون من أمرهم شيئاً إنما يساهم في إخراجها من أيديهم وتسليمها للآخرين.

أصحاب هذه الفكرة هم الذين يغيبون أنفسهم لأن الدول لا تتدخل في الشأن السوري إلا بإذن السوريين ومن خلال السوريين وبالتحديد من خلال من يحملون هذه الفكرة.

 إن مساحة التدخل الخارجي في الشأن السوري تتناسب طرداً مع المساحة  التي يشغلها هؤلاء القادة المزيفون الذين يتواصلون مع الدول أكثر من تواصلهم فيما بينهم ويعملون متفرقين على مشاريعهم الخاصة أكثر مما يعملون مجتمعين على المشروع الوطني.


عندما كنت أمارس الطب كنت أعمل مع طبيب قلبية في أحد المستشفيات، كان يشرح للمرضى طبيعة مرضهم وأهمية العلاج الذي يصفه لهم وكيف يحميهم من المرض، كان يفعل ذلك بطريقة مختصرة وواضحة وبسيطة، وكان يقول لي: العلاقة بين الطبيب والمريض هي أهم عامل في التزام المريض بتطبيق العلاج. كان يشرك المرضى أحياناً في اختيار العلاج بعد أن يشرح لهم سلبيات وإيجابيات كل خيار، مثلاً، أحياناً كان يخير المريضة المصابة بارتفاع الضغط حديثة الولادة بين دوائين خافضين للضغط: الدواء الأول يمكن أن يتسرب منه أثر بسيط عبر الإرضاع إلى الطفل وقد يسبب تسرعاً بسيطاً في دقات قلب الطفل دون أن يشكل ذلك خطراً عليه، والدواء الثاني يمكن أن يسبب ظهور الشعر على جسد المريضة. طبعاً الخياران مناسبان من وجهة نظره لكنه كان يترك تفضيل أحدهما للمريضة. هذا الطبيب الإنسان كان من أنجح الأطباء الذين عملت معهم لأنه كان يحترم مرضاه ويشرح لهم ويعطيهم فرصة المشاركة في اختيار العلاج عندما يكون ذلك مناسباً.

هذا الطبيب لم يكن يعلّم مرضاه ما تعلمه في كتب الطب لكنه كان ينقل لهم ما تعلمه بطريقة مبسطة وواضحة ومختصرة ليفهموا مرضهم ويطبقوا العلاج عن قناعة. كذلك السياسي ليس مطلوباً منه أن يعطي الناس دروساً في علم السياسة وأن يعرض عليهم تفاصيل لقاءاته واجتماعاته، المطلوب منه أن يشرح لهم الحقائق بطريقة مبسطة وواضحة ومختصرة، ويشركهم في اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم بعد أن يضع لهم الخيارات المدروسة ويشرح إيجابيات وسلبيات كل منها.

بعض السياسيين يعتقدون أن الشعب متخلف محدود الإمكانيات العقلية وأنه لا يفهم تعقيدات السياسة فيمضون في خياراتهم غير مبالين بفهم الناس لما يقومون به وغير مهتمين برضا الناس عنهم، وقد يلجأون إلى التدليس والتضليل لإخفاء الحقائق، تلك الحقائق التي تعجز عقول الناس الصغيرة - من وجهة نظرهم - عن استيعابها. هؤلاء السياسيون الذين يفتقرون إلى صفتي الصدق واحترام الناس عندما يكونون في صف الثورة هم امتداد لعقلية الحكام الذين يزعمون أنهم ثاروا عليهم.


المتسلق تنتهي (ثورته) عندما ينتهي انتفاعه منها، أما الثائر الحق فعندما ينتهي آخر نفس في صدره


أصعب القراءات عندما يكون القارئ والمقروء واحداً، أي عندما تقرأ ذاتك!


أحدهم يكتب لي ما معناه أن الله سيدخلني النار لأن الثورة التي أنافح عنها هي سبب الدمار الذي حل بالبلاد، أقول لهذا وأمثاله ...

عندما خرجت من السجن زارني أحد (الجيران) وقال لي: لماذا فعلت بنفسك ما فعلت؟ قلت له: أنا لا أطيق أن أعيش تحت حذاء الطاغية. قال لي: من قال لك أننا نعيش تحت الحذاء؟ نحن نمارس حياتنا كما نريد ولا أحد يتدخل بنا. لم ينتبه ذلك الجار أنني قضيت عامين ونصف في السجن لأنني عبرت عن رأيي فقط، وأن هذا بحد ذاته دليل على أننا نعيش تحت الحذاء مسلوبي الحرية والإرادة والكرامة، ما يقوله عملياً ذلك الجار: لا مشكلة  عندي أن يُسجن جاري الذي أدعي أنه يربطني به رباط الدين والوطن والجوار لأنه عبر عن رأيه ما دامت أنا خانعاً آكل وأشرب وأنكح، طبعاً لم أطلب من ذلك الجار أن يفعل مثلي، ولكن كان باستطاعته على الأقل أن ينكر المنكر بقلبه ما دام لا يستطيع أن ينكره بلسانه، لأنه ليس وراء ذلك ذرة من إيمان.

الفكر الذي يحمله أمثال هذا الذي كتب لي متوعداً بعذاب الله وهذا الجار الذي زارني بعد خروجي من السجن هو الذي مكن لعصابة الأسد وهو سبب الدمار الذي نعيشه. ما لا يستوعبه هؤلاء أن سنن الله لا تتخلف وأن الرضا بحياة كهذه لا يجلب أمناً ولا استقراراً لأنه يؤسس لتناقضات في المجتمع ما تلبث أن تتفاقم تدريجياً حتى تنفجر على شكل ثورات داخلية أو غزو خارجي أو الاثنين معاً كما حصل في سورية، لأن الاستبداد هو الذي يسبب الثورات وهو الذي يجلب الاحتلال. 

كيف تقنع شخصاً بألا يلوم المغتصَبة التي بدأت تدافع عن نفسها فأنشب المغتصِب أظافره في عنقها لتصمت وتذعن؟ كيف تقنعه بأن المغتصِب هو الجاني وهو المسؤول عن سفك دمها وليست هي؟! كيف تقنعه أن الوضع الذي كنا فيه هو اغتصاب فعلي لحريتنا وكرامتنا وحقوقنا وأرزاقنا وإنسانيتنا إذا كان لا يرى كل ذلك؟! كيف تقنعه أن الدم والتشريد والدمار هو ثمن استرداد حريتنا وأننا ما كنا مضطرين لدفع هذا الثمن لولا صمته وصمت أمثاله؟! كيف تقنعه أن عصابة الأسد كانت وكيلة المحتل الروسي والإيراني الذي يجثم على صدورنا اليوم وأنها كانت تنفذ إرادته بالكامل مقابل إسكات إرادة الشعب وأنه عندما ثار الشعب معبّراً عن إرادته وعجزت عصابة الأسد عن إسكاته جاء المحتل بنفسه ليقمع هذه الإرادة أي أن الثورة لم تجلب المحتل بل كشفت الحقيقة وكشف الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو تغيير أي واقع سيء. 

هؤلاء لا يقرأون عشرات الأمثلة من التاريخ، ولا يقرأون الواقع، بل تزداد الغشاوة على أعينهم كلما ازدادت الحقائق وضوحاً لأن الله أعمى أبصارهم وبصائرهم!


إن من أعظم المنكرات في مجتمعنا منكر العبودية للبشر بالفعل وإدعاء العبودية لله بالقول؛ أن تدعي العبودية لله بلسانك في حين تمضي حياتك عبداً ذليلاً لبشر مثلك لا تجرؤ على انتقاده خوفاً منه! من هذه العبودية للبشر تنداح كل المنكرات الأخرى من ظلم وفساد وقتل وكل أنواع انتهاك الإنسان مادياً ومعنوياً. وبسبب هذه العبودية للبشر تنهزم المجتمعات في كل معاركها العسكرية والحضارية لأن العبد لا يكر ولا يفر لا في ساحة قتال ولا في ساحة فكر!

وأبشع ما في العبودية للبشر أن ترتدي رداء الدين فيصبح التسبيح بحمد الظالمين طاعة لولي الأمر يُتعبد الله بها، ويصبح الجهر بكلمة الحق فتنةً تُحل للحاكم سفك الدماء وبمباركة هؤلاء العبيد أعوان الظلمة.

أنا لا أطلب من إنسان يعيش في مناطق النظام أن يعارضه جهراً فالقليلون جداً من يتحملون كلفة ذلك، أطلب منه أن يكون حراً في نفسه على الأقل وأن يعرف المعروف وينكر المنكر في قلبه على الأقل. أما عندما يصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً فعندها لن يغير النفوس إلا عذاب من الله شديد، وسيدفع هؤلاء العبيد ضريبة الذل مرغمين أضعافاً مضاعفة عن ضريبة العز التي رفضوا أن يدفعوها طائعين.

Share