15 أم 18 آذار
تمنح الثورات المجتمعات فرصة النهوض وتسريع عملية التغيير لأنها تدفع بالإشكاليات التي تعاني منها هذه المجتمعات إلى السطح وتظهرها في أشد حالاتها، وهنا إما أن يلتقط المفكرون والمنظرون هذه الفرصة لتحليل الإشكاليات ومساعدة المجتمع على فهمها وتجاوزها، أو أن يضيعوا الفرصة فتصبح الثورات مجالاً لظهور الإشكاليات فقط دون علاجها، وعندها سيجد المشككون بالثورات فرصتهم ليرفعوا عقيرتهم ويقولوا: ألم نقل لكم أنها ليست ثورة؟ ألم نقل لكم أنكم شعب متخلف لا تليق به الحرية ولا يستحق الحياة الكريمة كبقية الشعوب؟
نعم الثورات لا تمضي بالمجتمعات إلى الأمام بشكل عفوي تلقائي، وإنما تحتاج إلى جهد فكري منظم ومتراكم يستثمر الثورات في بناء المفاهيم الجديدة التي تنهض بالمجتمعات بالتزامن مع ما تهدمه الثورة من مفاهيم معيقة.
وهنا أجد في الاختلاف حول تاريخ بداية الثورة السورية هل هو 15 أم 18 آذار فرصة لتحليل إشكالية التعامل مع الاختلاف عندنا نحن السوريين، وهي إشكالية عانينا منها كثيراً في السنوات الأحد عشر الماضية وسببت لنا الكثير من الكوارث والهزائم وسنظل نعاني منها لسنوات طويلة حتى نبلغ من النضج درجة تمكننا من تقبل الاختلاف وإدارته بما يخدم قضايانا الكبيرة ومصالحنا المشتركة.
وسأسجل ملاحظاتي حول هذا الموضوع على شكل نقاط:
- ليس هدفي من هذه المقالة ترجيح أحد الرأيين ولا القول إنه خلاف سخيف يجب ألا نخوض فيه، هدفي أن أشرح وجهة نظري في التعامل مع الخلافات بشكل عام وكيف نتجنب تحويلها إلى صراعات هدامة.
- الخطوة الأولى في التعامل مع أي خلاف سماع وجهة نظر الطرف الآخر من أجل فهمه وليس الرد عليه، الفهم هنا لا يعني الموافقة، لكن يعني عدم الهجوم على الأشخاص والحكم على النيات، لنطبق هذه الفكرة على الخلاف حول تاريخ بدء الثورة:
من يقول 15 آذار، يعتبر أول مظاهرة منظمة تم تسجيلها وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي هو تاريخ بدء الثورة. ووفقاً لهذا الاعتبار هو محق.
من يقول 18 آذار، يعتبر خروج عشرات الألوف في درعا احتجاجاً على اعتقال الأطفال واستمرار هذا الخروج في الأيام التالية وتصاعده بالرغم مما واجهه من قمع النظام هو الذي أطلق شرارة الثورة السورية وشجع بقية المحافظات على الثورة، أي لو لا خروج أهل درعا بهذه الأعداد الكبيرة وبشكل مستمر لما اندلعت الثورة السورية. ووفقاً لهذا الاعتبار هو محق أيضاً. - تتحول الاختلافات إلى صراعات هدامة عندما تنتقل من خلاف حول فكرة إلى صراعات حول الكرامة والأفضلية والقيمة وعندما تأخذ طابعاً شخصياً ومناطقياً. لنطبق هذه الفكرة على الخلاف إياه.
من يقول تاريخ 15 آذار هو يريد أن يحافظ على كرامة أهل دمشق وأحقيتهم في المشاركة بالثورة وخصوصاً في وجه من يتهمهم بالجبن والتخاذل.
من يقول تاريخ 18 آذار هو يريد أن يحافظ على كرامة أهل درعا وأحقيتهم في المشاركة بالثورة وخصوصاً عندما يستصحب شعوراً بالفوقية يبديه بعض أهل دمشق تجاه بقية المحافظات وهو شعور موجود عند بعض الدمشقيين ولا يستطيع منصف إنكاره، أقول ذلك وأنا دمشقي أرفض ذلك الشعور وأعتبره من بقايا الجاهلية.
ما ذكرته حتى الآن ليس لحسم الخلاف لصالح أحد الطرفين وإنما لفهم دوافعه العميقة وإخراجها إلى السطح بدل أن (تعسّ) في النفوس وتحرق وتخرب ببطء وخبث! - برأيي أن العشرات الذين خرجوا في مظاهرة دمشق في 15 آذار وكانت المظاهرة الأولى في بيئة أمنية شديدة الخطورة هم في الشجاعة والبطولة والفضل مثل الألوف الذين خرجوا في مظاهرة درعا في 18 آذار، وفي السنوات التي تلت ذلك شاركت كل المحافظات في الثورة بنسب مختلفة وقدمت الشهداء والمعتقلين، وكان في كل محافظة ثوار وشبيحة ورماديون، ولا فضل لأحد على آخر بانتسابه إلى هذه المحافظة أو تلك وإنما بثوريته وما قدمه من تضحيات.
- الخلافات التي تحدث على وسائل التواصل الاجتماعي لا تعكس الواقع لأنها تحدث في كثير من الأحيان من قبل أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض، وبالتالي يصبح مجال سوء الفهم والتركيز على نقطة الخلاف أكبر بكثير من مجال التفهم والتقبل والتجاوز.
عندما تختلف في الرأي مع (صديق حقيقي) تعرفه وعشت معه وعاشرته يمكنك أن تعذره وألا يتحول الخلاف إلى صراع شخصي، أما مع (صديق افتراضي) فالانزلاق إلى صراع شخصي وارد جداً، هذا إذا صدقت النوايا، فما بالك والفضاء الافتراضي يضج بشخصيات مندسة يدفع بها النظام عن قصد لبث البلبلة وإثارة الفتن؟! - سيظل هذا الخلاف حول تاريخ بدء الثورة قائماً وستكون هناك خلافات كثيرة بيننا وهذا أمر طبيعي. وطالما الخلافات لا تمس المبادئ والقيم التي لا نستطيع التخلي عنها ليس علينا حسم هذه الخلافات وإنما التعايش معها وعدم تحويلها إلى صراعات شخصية ومناطقية وإلى عوائق تمنعنا من التعاون فيما يخدم قضايانا المشتركة.