هل فات أوان إصلاح (المحرر)؟!
يقطن في الشمال السوري الذي يُدار نظرياً من الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف حوالي مليوني سوري ونصف، وتبلغ مساحته حوالي 5% من الجغرافيا السورية أي ما يعادل مساحة لبنان، ويحتوي على مناطق زراعية واسعة وإمكانيات بشرية هائلة يمكن إذا أحسنّا استثمارها أن نجعل منها منطقة تنمية اجتماعية وإدارية وسياسية واقتصادية وعلمية مستدامة تشكل نموذجاً لسورية المستقبل التي يطمح لها جميع السوريين.
يتمتع الشمال السوري بنسبة مقبولة من الأمان وهامش حرية أوسع من الهامش الذي يملكه السوريون في المناطق الأخرى الخاضعة للنظام والإدارة الذاتية وحكومة الإنقاذ، وإن لم تكن هي الحرية المطلوبة التي ثار السوريون من أجلها والتي تجعل أي مسؤول تحت النقد والمساءلة والمحاسبة. وتحاول الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية بما لديها من إمكانيات محدودة أن تنظم حياة السوريين وتلبي حاجاتهم الأساسية قدر الإمكان، لكن تبعية المجالس المحلية للولاة الأتراك بدلاً من تبعيتها الحصرية لوزارة الإدارة المحلية في الحكومة المؤقتة، وتبعية الإدارات الخدمية من تعليم وصحة وقضاء وأوقاف للمنسقين الأتراك بدلاً من تبعيتها للوزارات المعنية بهذه الخدمات في الحكومة المؤقتة، تنفي عن هذه الحكومة صفة الإدارة المركزية التي تخطط وتنفذ والتي لن ينهض الشمال السوري إلا بها، وتؤدي إلى قرارات لا تخدم السوريين دائماً لأنها صادرة من جهات لا تدرك بالضرورة احتياجات السوريين وثقافتهم وطبيعة مجتمعهم، كما أن الطريقة الفوقية التي تصدر بها هذه القرارات تمس الكرامة الوطنية للسوريين القاطنين في هذه المناطق الذين ثاروا على النظام وضحوا بالغالي والرخيص من أجل كرامتهم، ولا يمكن أن يكتمل توصيف المشهد في الشمال السوري دون ذكر عدم وجود مؤسسة قضائية مستقلة تجرم المفسدين وتحاسبهم مما أدى إلى انتشار الفساد والمحسوبية، ودون ذكر الحالة الفصائلية فعلى الرغم من محاولات اندماج الفصائل في تشكيلات أوسع ومحاولاتها الحد من تجاوزات بعض الفصائل والأفراد لكنها تظل محاولات قاصرة جداً عما تطالب به الإرادة الشعبية في الشمال المحرر من بناء جيش وطني مستقل لا فصائلية فيه مهمته الوحيدة حماية حدود المحرر وأمنه والاستعداد للمساهمة في تحرير سورية كلها عندما تسمح الظروف بذلك.
الوصف السابق للشمال السوري يعرفه كل السوريين القاطنين في الشمال وهم يسألون عن الحلول التي إيجادها هي مهمة النخب السياسية والوطنية الذين عليهم أن ينزلوا إلى الواقع ليفهموه وليضعوا الحلول الواقعية وليحشدوا السوريين للضغط من أجل تطبيقها، فالحلول ستجد ممانعة كبيرة لأنها تمس مصالح جهات عديدة مستفيدة من الأوضاع الحالية، لذلك لا بد أن تتكاتف كل القوى الوطنية من أجل إيجاد هذه الحلول وفرضها سواء كانت هذه القوى تيارات سياسية أو شخصيات مستقلة أو تجمعات ثورية أو نقابات مهنية أو منظمات مجتمع مدني وغيرها من الكيانات التي تهتم بالشأن العام.
إن ترك الوضع على حاله في الشمال السوري لن يؤدي إلى بقاء المشاكل كما هي بل سيؤدي إلى تفاقمها، والإصلاح يجب ألا يقتصر على ضخ الأموال وبناء (مدن جديدة) كما يُشاع وخصوصاً عندما تتم عملية الضخ هذه بطرق شخصانية التفافية لا مؤسساتية ستزيد من الخلل الموجود بدل أن تعالجه.
أما (كَتَبة التقارير) الذين يُوصلون للحكومة التركية أن كل من ينادي بالإصلاح هو عدو لتركيا فهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان ويجب ألا يعيقوا المصلحين الوطنيين الصادقين، الذين يجب أن يتواصلوا مع الحكومة التركية بشكل مباشر ويشرحوا لها أن بقاء الحال على ما هو عليه يضر بالمصلحة التركية أولاً وأخيراً، فنجاح تجربتنا كسوريين في الشمال السوريين هو نجاح لتركيا، وهو نجاح يحتاج إلى أن يتعامل الأتراك مع السوريين كشركاء وليس كتابعين، يقتضي ذلك من طرفنا أن نكون أولئك السوريين الذين يعتبرون أنفسهم شركاء لا تابعين.
وأخيراً إن طريق الإصلاح في الشمال السوري سيكون مفروشاً بالأشواك، لكنه الاستحقاق الوطني الأهم الذي إذا لم نتصدى له فنحن نخون دماء الشهداء.