cover

الشمال السوري والبديل الثالث

يوجد اليوم في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام وسيطرة ما يسمى الإدارة الذاتية نموذجان:

  1. النموذج الموجود في المناطق الخاضعة نظرياً للحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، والذي يتصف بقدر كبير من الفوضى والتفلت الأمني وانتشار الفساد  في القضاء والإدارات التابعة للحكومة المؤقتة، إضافة إلى تبعية هذه الإدارات بشكل كامل للقرار التركي حيث يتبع كل مجلس محلي لأحد الولاة الأتراك، في حين يوجد منسق تركي لكل من قطاعات القضاء والتعليم والصحة والأوقاف ولا يتم اتخاذ أي قرار في هذه القطاعات من دون  العودة إلى المنسق. في هذه المناطق أيضاً تتجلى الحالة الفصائلية حيث يسيطر كل فصيل  أو مجموعة فصائل على منطقة معينة وغالباً ما تكون ممارسات هذا الفصيل في مناطق سيطرته خارج نطاق المحاسبة والمساءلة القانونية وتتكرر من حين إلى آخر صدامات مسلحة بين هذا الفصيل أو ذاك لخلافات مصلحية أو مناطقية أو عشائرية يسفر عنها ضحايا عسكريون ومدنيون.
  2. النموذج الموجود في المناطق الخاضعة لهيئة تحرير الشام، تستنسخ الهيئة في هذه المناطق النموذج البعثي الأمني الذي حكم به النظام سورية طوال العقود الماضية. حيث حكومة الانقاذ واجهة لهيئة تحرير الشام تتحكم في مفاصلها من خلال مندوب لها في كل وزارة هو صاحب القرار الفعلي، ولا تسمح الهيئة في مناطق سيطرتها بأي شكل من أشكال النشاط السياسي ما لم يكن تابعاً لها، وهي تحتكر النشاط الاقتصادي في القطاعات الهامة كالمحروقات والاتصالات، وتأخذ نسبة تتراوح من 20-30% من الإغاثة التي تصل عن طريق المنظمات الإغاثية لتنفقها على الموالين لها خارج أي مراقبة أو محاسبة، وتلاحق الهيئة وتعتقل الناشطين والإعلاميين الذين ينتقدون ممارساتها مما أدى إلى تحييد الكثير من الناشطين عن المشاركة في الشأن العام أو اضطرارهم إلى الانتقال إلى مناطق الحكومة المؤقتة هرباً من سطوة الجولاني، أما عن سجون الهيئة فهي لا تختلف كثيراً في ظروف الاعتقال وانتهاك كرامة البشر عن سجون النظام. وللإنصاف تتصف مناطق الهيئة بالادارة المركزية التي تفتقر إليها مناطق الحكومة المؤقتة ولا نرى فيها الفساد المستشري في مناطق المؤقتة وخصوصاً في مجال القضاء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القبضة الأمنية وكم الأفواه في مناطق الهيئة يمنع الحديث عن مظاهر الفساد وكشفه كما يحدث في مناطق المؤقتة.

في تشرين أول 2022 دخلت هيئة تحرير الشام إلى عفرين وحاولت السيطرة عسكرياً على بقية المناطق الخاضعة للحكومة المؤقتة، ساعدها على الدخول إلى عفرين ومحيطها تحالفها مع فصيل العمشات وفصيل الحمزات الذي كان مهدداً بالاستئصال بسبب اتهامه بمقتل الناشط أبو غنوم وزوجته فدخلت الهيئة لمناصرته وحمايته. انسحبت الهيئة  من مناطق الحكومة المؤقتة بعد أيام من دخولها نتيجة لضغوط تركية، وظل تواجدها الأمني بشكل خفي في تلك المناطق.

بعد المحاولة الفاشلة لاجتياح مناطق الحكومة المؤقتة استمر الجولاني بالتواصل مع القوى العسكرية في المنطقة من أجل إقناعها بالخروج من التكتل العسكري الأكبر المناويء له (الفيلق الثالث) فخرجت بعض التشكيلات العسكرية وكونت تجمع الشهباء كما استمر في تغلغله الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة من خلال أخذ ما يشبه البيعة له من وجاهات اجتماعية وتجار كبار ارتأوا في التحالف المبكر مع الجولاني  ما يحفظ لهم مصالحهم في حال سيطرته على المنطقة.

أنا ممن يرون أن مشروع الجولاني،  مشروع تسلطي بعباءة إسلامية، استطاع أن يقنع البعض بالقبول به بحجة فرض الأمن ومواجهة النظام، لكنه يقتل القوى الحية  وروح الثورة في المجتمع السوري ويمنع تطوره السياسي ويحوله إلى ساحة لمغامرات زعيم أوحد لا نعرف بالضبط طبيعة ارتباطاته، إضافة إلى أنه يضع أهل الشمال  في دائرة الاستهداف عندما تحكمهم هيئة مصنفة دولياً على قوائم الإرهاب.

بالمقابل أعرف شباباً لا أشك في إخلاصهم يرون في دخول الجولاني إلى الشمال خلاصاً من الفوضى وتوحيداً للصف وأنا أناقش هؤلاء الشباب وأحاورهم لكن لا أتهمهم بالخيانة والعمالة  وأعتقد أن ما يحدث في الشارع الثوري من تجييش متبادل بين مؤيدي مشروع الجولاني ومعارضيه ليس حالة صحية على الإطلاق.

السؤال الذي يطرحه كثيرون: إن لم يكن مشروع الجولاني فما البديل؟

قبل أن أطرح البديل أريد أن أبين المنطلقات الأربعة التي أبني عليها المشروع البديل:

  1. نحن بحاجة إلى قيادة واحدة في الشمال السوري مدنية عسكرية سياسية، أي إدارة مدنية واحدة وجسم عسكري واحد وواجهة سياسية واحدة تكون هي المرجعية السياسية لكل من الإدارة المدنية والجسم العسكري، هذه القيادة يجب أن تحظى بالشرعية الداخلية أي القبول الشعبي وبالشرعية الخارجية أي القبول من الدول الفاعلة في الملف السوري.
  2. علينا أن نجنب الشمال السوري أي اقتتال داخلي يسفك دماء شبابنا ولا يستفيد منه إلا النظام، جو التحريض والاتهامات المتبادلة بالعمالة والتخوين والتكفير واستخدام الدين للتجييش في الصراع مع الجولاني أو ضده، هو جو مرضي خبيث على العقلاء في الشمال السوري أن يساهموا في تبديده، لا يعني ذلك تمييع المواقف وأن يتخلى الإنسان عن قناعاته.  
  3. علينا أن نحافظ على القوى العسكرية الموجودة في الشمال السوري مع اتخاذ الاجراءات اللازمة التي تنفي عنها صفة الارهاب.
  4. علينا أن نحافظ على البنى والكفاءات والخبرات الادارية الموجودة في الشمال السوري سواء تلك التابعة لحكومة الانقاذ أو المؤقتة وأن نكامل فيما بينها.

بناء على هذه المنطلقات يتلخص المشروع البديل بالعناوين العريضة التالية:

  1. تشكيل جسم عسكري واحد تندرج ضمنه كل الفصائل الموجودة في الشمال السوري بمن فيهم المقاتلون المندرجون حالياً في صفوف هيئة تحرير الشام.
  2. حماية للشمال السوري من الاستهداف وحتى تكتسب القيادة الجديدة الشرعية الخارجية يعلن أبو محمد الجولاني وغيره من قيادات الهيئة المصنفون على قوائم الارهاب الاستقالة من مناصبهم وحل هيئة تحرير الشام ويعاد تشكيلها تحت مسمى آخر، ولا يستلم أبو محمد الجولاني وقادة الهيئة المصنفون على قوائم الإرهاب أي مناصب رسمية عسكرية أو مدنية.
  3. يتم دمج حكومتي الانقاذ والمؤقتة في حكومة واحدة، بدون أي تدخل في عمل هذه الحكومة من أي جهة داخلية أو خارجية.
  4. تتشكل (هيئة عامة في الشمال السوري) من شخصيات لها قبولها الاجتماعي في الشمال السوري ضمن معايير أهمها ثورية هذه الشخصيات وكفاءتها وسيرتها الحسنة وقدرتها على جمع الناس وكسب ثقتهم، تكون هذه الهيئة هي الحامل الشعبي/ المجتمعي/المدني لهذا المشروع البديل، والمرجعية الشعبية التي تعطيه الشرعية الداخلية وتراقب أداء مكوناته الثلاث (العسكري- المدني – السياسي) ضمن آلية تضمن المراقبة والمحاسبة.
  5. تعلن (الهيئة العامة للشمال السوري) وثيقة وطنية تعلن فيها المبادئ التي ستعمل وفقها القيادة الجديدة والتي يجب أن تراعي الوطنية السورية وحقوق الإنسان وعدم مخالفة ثابت مجمع عليه من ثوابت الإسلام.
  6. تعين (الهيئة العامة للشمال السوري) الواجهة السياسية للمشروع البديل. تشكل الواجهة السياسية المرجعية السياسية للجسم العسكري والادارة المدنية وتكون الجهة التي تفاوض باسم السوريين في الشمال السوري.
  7. تتشكل لجان تقنية تقترح الاجراءات اللازمة لدمج الأجسام العسكرية والامنية والادارية الموجودة في المنطقتين الخاضعتين حاليا للحكومة المؤقتة وحكومة الانقاذ

هذه عناوين عريضة لما سميته (البديل الثالث في الشمال السوري) ولا شك أنها تحتاج إلى تفاصيل كثيرة، وقد لا تكون فرص نجاحها عالية، لكن وضعنا في الشمال السوري اليوم كالمريض المحتضر على طاولة العمليات الذي سيموت حتماً من دون أي تدخل، أي تدخل مهما كان محفوفاً بالمخاطر واحتمال فشله عالياً هو واجب الوقت.

Share