القيادة المرتكزة على المبادئ
إنهم القادة الحقيقيون؛ خائفون وشرسون
جيم كولينز، كتاب (من الجيد إلى العظيم)
في الوقت نفسه، خجلون وجريئون
في آن واحد
هل تشكو من لامبالاة موظفيك وضعف حماسهم للعمل؟ هل تشكو من تهرب موظفيك من المسؤولية ومن الفوضى وضعف التنسيق بين أقسام مؤسستك؟ هل تشكو من أنانية موظفيك واستئثارهم بالنجاح وعدم مساعدتهم لبعضهم البعض؟ هل تشكو من كثرة الموظفين الذي يتركون مؤسستك ويلتحقون بمؤسسات أخرى؟ وأخيراً هل تشكو من شعور عميق بالألم وعدم الراحة يراودك كلما خلوت بنفسك أو آويت إلى فراشك؟ إذا كنت تشكو من كل هذه الأمور فأمامك اليوم فرصة رائعة لتراجع أسلوبك في القيادة، لأن كل هذه الأعراض ستزول تلقائياً عندما تمارس القيادة المرتكزة على المبادئ. وسأبدأ بتعريف القيادة ثم أتحدث عن أهم نوعين من أنواع القيادة المرتكزة على المبادئ
إن أبلغ تعريف قرأته عن القيادة هو ذلك التعريف الذي أورده ستيفن كوفي في كتابه (العادة الثامنة) حيث يقول: القيادة هي إشعار الناس بقيمتهم وإمكانياتهم بشكل واضح إلى درجة تجعلهم يرون هذه القيمة والإمكانيات في أنفسهم. فالقائد الحقيقي هو كالمرآة التي تعكس أفضل ما لدينا من صفات، فإذا كنا أمامه رأينا أنفسنا كباراً وشعرنا بالقوة والثقة ويستطيع كل واحد منا أن يستحضر من ذاكرته تجربة كان فيها خائفاً أو متردداً أو ضعيف الثقة بنفسه فجاءه من ينفخ فيه روح الثقة والإقدام ويساعده على إطلاق طاقاته الكامنة. أما المبادئ التي ترتكز عليها القيادة الناجحة فهي تلك القوانين الإلهية الثابتة التي تحكم علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين وسأذكر هنا نوعين من أنواع القيادة المرتكزة على المبادئ
القيادة المرتكزة على الصدق: يتجلى صدق القائد بعدة مظاهر أهمها أن يطبق القائد على نفسه الأمور التي يدعو الآخرين إليها؛ فعندما يدعو موظفيه إلى المبادرة عليه أن يكون قدوة لهم في المبادرة فلا يلومهم إذا لمس منهم فتوراً في العمل بل يبادر إلى تحفيزهم وتهيئة الظروف التي تجعلهم أكثر حماساً واندفاعاً، وعندما يدعو موظفيه إلى الاعتراف بالخطأ وتقبل النقد عليه أن يكون قدوة لهم في ذلك فلا يظهر الامتعاض عندما يصله تقييم سلبي لسياسة اتبعها أو لقرار اتخذه بل يتقبل النقد ويشكر من أتى به ويحاول الاستفادة منه، وعندما يدعو موظفيه إلى التعاون والتكاتف والتشاور عليه أن يكون قدوة لهم في ذلك فيستشيرهم في القرارات المتعلقة بهم ويساعدهم عندما يحتاجون إلى المساعدة، ومن مظاهر صدق القائد أن يفي بوعوده فإذا وعد موظفيه بزيادة الراتب أو بتحسين ظروف العمل كان عند وعده فلم يؤخر أو يسوف أو يبرر، ومن مظاهر صدق القائد أن يصدق مع زبائن المؤسسة فلا (يتشاطر) ويخفض من نوعية البضاعة أو الخدمة التي يقدمها إلى الزبون لكي يحقق مزيداً من الأرباح، هذه كلها من مظاهر صدق القائد والقانون الإلهي يقول: (الصدق يؤدي إلى الثقة) فأنت عندما تتعامل مع شخص صادق تثق به، وعندما يثق الأتباع بقائد المؤسسة فإن الثقة تتحول إلى جو عام يشمل المؤسسة كلها، ولك أن تتخيل كيف تعمل مؤسسة تنتشر الثقة بين أفرادها، لك أن تتخيل مشاعر الفخر والانتماء التي ستتحرك بين جوانح من يعملون في هذه المؤسسة، لك أن تتخيل مقدار التعاون والمبادرة وتبادل المعلومات الذي يحدث في مؤسسة من هذا النوع وكيف سينعكس كل ذلك على إنتاجها ومكانتها في السوق، وفي إحدى الدراسات وجدت مؤسسة فرانكلين كوفي الرائدة على مستوى العالم في مجال الاستشارات القيادية أن أهم سبب يؤدي إلى خسارة الشركات هو (ضعف الثقة) بين أفراد الشركة
القيادة المرتكزة على احترام الكرامة الإنسانية: عندما نعمل مع شخصٍ يحترم إنسانيتنا ويراعي مشاعرنا ويسعى إلى تلبية حاجاتنا فإننا نعطيه أفضل ما لدينا وندين له بالولاء ونعمل له وكأننا نعمل لأنفسنا، إن احترام الآخرين يتجلى في عدة مظاهر بدءاً بتحيتهم عندما نمر بهم (أعرف موظفاً غاية في الجد والإخلاص ترك العمل – مع أنه كان يتقاضى راتباً كبيراً – لسبب واحد فقط وهو أن مديره كان لا يسلم عليه عندما يمر بقربه، ومع أن المدير كان يفعل ذلك مع جميع الموظفين إلا أن صاحبي قال لي إنه لم يعد يحتمل أن يُعامل وكأنه "شيء" وليس "إنساناً"!) من مظاهر احترام الكرامة الإنسانية إعطاء الموظف الأجر الذي يستحقه والذي يكفل له العيش الكريم فكم من صاحب مؤسسة يربح عشرات الملايين في حين تراه يضرب أخماساً بأسداس عندما يطلب منه موظف زيادة ألف أو ألفين على راتبه الذي ينتهي في اليوم العاشر من الشهر، وعندما ناقشت أحدهم في هذا الموضوع ذات يوم قال لي أخشى إن زدت راتب أحد الموظفين أن يطالب الآخرون بالزيادة، قلت له: وماذا لو طالب الآخرون بالزيادة؟ إن مؤسستك تربح عشرات الملايين كل عام فماذا يضيرك إن قلت الأرباح مليوناً واحداً؟ قال لي: كل المؤسسات تعطي مقدار الراتب الذي أعطيه للموظفين عندي، قلت له: وهل تعتقد أن هذا الراتب يكفي أكثر من عشرة أيام قال: (لا يكفي) ولكن (هذا هو الحاضر) و(الشغل ماشي) لأنه لا يوجد أمام الموظف خيار آخر. لم أستطع أن أقنع ذلك الشخص ولكنني على يقين بأن المليون التي ستقل من أرباحه سنوياً إذا زاد من رواتب موظفيه ستُشعر هؤلاء الموظفين بأن صاحب المؤسسة يهتم بهم ويحرص على تلبية حاجاتهم وسينعكس ذلك إيجابياً على ولائهم وجدِّهم وتفانيهم في العمل وسيعود عليه بعشرات الملايين الإضافية في نهاية العام. ومن مظاهر احترام الكرامة الإنسانية أن لا يتصيد القائد أخطاء الموظفين ونقاط ضعفهم لكي يعاقبهم أو ينال منهم بل يحول هذه الأخطاء إلى فرصة للأخذ بأيديهم ومساعدتهم في التغلب على ضعفهم وتطوير أنفسهم. إن القانون الإلهي الذي يقول
عندما تعامل الناس باحترام فإنهم يعطونك أفضل ما لديهم) هو من أهم القوانين التي تطلق طاقات البشر وإمكانياتهم وهنا علينا أن لا نخلط بين احترام الآخرين والتساهل الذي يضر بالعمل فاحترام الآخرين لا يعني مداراتهم على حساب العمل وهو لا يتعارض مع الحزم المطلوب من القائد الناجح فالحزم لا يعني إهانة الناس والدوس على كرامتهم والمؤسسة الناجحة يبنيها رجال ونساء أسوياء يشعرون بقيمتهم وكرامتهم وليس عبيداً خائفين مستعدين لتقبل الإهانات في سبيل (لقمة العيش
أريد أن أختم هذا المقال بنوعين شائعين من (القيادة غير المرتكزة على المبادئ) وهما
القيادة المرتكزة على الربح: حيث كل ما يهم القائد هو زيادة الأرباح وهو في سبيل ذلك قد يكذب على موظفيه ويحرمهم من حقوقهم وقد يكذب على زبائن المؤسسة ويغشهم، وهو أسلوب مغر لأنه غالباً ما يؤدي إلى زيادة هائلة في الأرباح وفي فترة وجيزة ولكن هذه الأرباح لا تستمر طويلاً فبعد سنوات قليلة يبدأ التراجع ويبدأ العد العكسي لنهاية المؤسسة بعد أن يفقد موظفوها وزبائنها ثقتهم بها
القيادة المرتكزة على (الأنا): في داخل كل واحد منا يوجد صوتان متناقضان؛ الأول صوت (الضمير) وهو ذلك الصوت الهادئ الخافت المسالم الموجود في داخلنا والذي يقول لنا هذا صواب وهذا خطأ، هذا جميل وهذا قبيح، هذا الصوت على الرغم من خفوته إلا أنه واضح تماماً ولا يمكن لأحد أن يخطئه، إن القائد الذي ترتكز قيادته على (الضمير) يعامل الآخرين كبشر ويهتم بمشاعرهم واحتياجاتهم، وهو يتقبل النقد ويشكر من أتى به لأنه يستمد شعوره بالأمن من داخله؛ من إنصاته إلى صوت الضمير ومن استقامته على المبادئ وليس من مديح الناس له، وهو يملك (عقلية الوفرة) أي إنه ينظر إلى الحياة على أنها نبع متدفق فإذا أخذ غيره أكثر من هذا النبع لا يشعر أنه قد أحذ من حصته لأن النبع المتدفق يكفي الجميع لذلك هو يعطي الموظفين الصلاحيات ويفرح لنجاحهم ويعتبره نجاحاً له، وأخيراً فإن هذا القائد يشعر براحة داخلية عميقة ترافقه في حله وترحاله، أما صوت (الأنا) فهو ذلك الصوت العالي الطاغي المستبد الموجود في داخلنا والذي يثبت ذاته بإقصاء الآخرين ونفيهم وتهميشهم، إن القائد الذي ترتكز قيادته على (الأنا) يعامل الآخرين كأشياء ولا يهتم بمشاعرهم واحتياجاتهم، وهو لا يتقبل النقد لأنه يستمد شعوره بالأمن من الخارج؛ من مديح الناس وإطرائهم وثنائهم، فإذا انقلب هذا المديح نقداً فقد المصدر الوحيد لشعوره بالأمن وشعر بفراغ وفزع كبيرين لذلك يرفض هذا النوع من القادة النقد بل قد يعاقب من ينقده ويعترض عليه، وهو يملك (عقلية الندرة) أي إنه ينظر إلى الحياة على أنها قالب محدود من الحلوى فإذا أخذ غيره أكثر من هذا القالب فقد أخذ من حصته لذلك هو لا يعطي الموظفين الصلاحيات ولا يفرح لنجاحهم ويعتبره تهديداً له، وأخيراً فإن هذا القائد يشعر في داخله بالفراغ والعجز والألم على الرغم مما يبديه من مظاهر القوة والثقة بالنفس
في الختام، إن النجاح الذي يحققه بعض القادة بعيداً عن مبدأي الصدق واحترام الكرامة الإنسانية هو نجاح ظاهري مؤقت لا يمكن أن يصمد طويلاً فالتجربة الإنسانية أثبتت أن المؤسسات التي تبني نجاحها على الكذب والخداع وعدم الاهتمام بالإنسان تكبر بسرعة كالفقاعة الملونة ثم تنفقئ سريعاً عندما تواجه وهج التحديات الحقيقية
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي