الشركات الخاصة والمسؤولية الاجتماعية
كنت ألقي محاضرة عن الذكاء العاطفي في الأسرة في مجموعة من الأمهات في إحدى الجمعيات الخيرية، ذكرت لي إحداهن أنها تضرب ابنتها إذا حصلت على درجة تقل عن العشرة (أي الدرجة التامة) في أيِّ مادة من المواد وذكرت لي أن ابنتها ذكية جداً ومتفوقة وهي تفعل ذلك حرصاً منها على ابنتها ومستقبلها ولأنها تريد منها المحافظة على تفوقها. أثنيت على حرص الأم على ابنتها واهتمامها بها وقلت لها أتوقع أن تكون ابنتك مصابة بالتوتر النفسي وبأن المحبة والثقة بينكما شبه معدومة هزت الأم رأسها باستغراب وقالت لي: كيف عرفت ذلك؟ وهنا أخذت أشرح للأم كيف أن معاملتها لابنتها بهذه الطريقة سترسخ في ذهنها أن قيمتها (أي قيمة البنت) تساوي قيمة العلامة التي تأخذها في الامتحان – وهذا غير صحيح بالطبع! - وبالتالي ستصاب هذه الطفلة بالإحباط وبانخفاض تقدير الذات إذا نقصت علامتها وهذا سيسبب لها التوتر الشديد قبل كل امتحان وضربت لها عدة أمثلة عن أشخاص فشلوا في حياتهم بالرغم من تفوقهم الدراسي ومن شهاداتهم الكثيرة التي يمكن أن تغطي جداراً كاملاً وشرحت للأم كيف أن شعور الطفلة بتقديرها لذاتها وعلاقتها الجيدة معها أولى من العلامة التامة. تأثرت الأم بكلامي كثيراً ودمعت عيناها عندما أدركت الخطأ الذي كانت ترتكبه بحق ابنتها وكان واضحاً من أسئلتها والحوار القصير الذي دار بيننا أنها سيدة في غاية الذكاء، كل ما في الأمر أنها لم تتح لها الفرصة لتعلم قواعد التربية الصحيحة. بعد تلك المحاضرة سمعت كثيراً من القصص الحزينة الناجمة عن الجهل وقلت في نفسي إن هؤلاء الأمهات اللواتي ينتمين إلى شريحة اجتماعية لا تملك الإمكانيات الاقتصادية التي تسمح لها بحضور دورة في التنمية البشرية أو في التربية والتعامل مع الأطفال أو في التعامل بين الأزواج، هؤلاء الأمهات هنَّ أكثر حاجة إلى هذه الدورات من الأشخاص الذين يحضرون دوراتنا في العادة وغالباً ما يكونون من شريحة اجتماعية ميسورة الحال أكثر وعياً وأقل ارتكاباً للأخطاء الفظيعة في تعاملهم مع أنفسهم ومع الآخرين. لو أنَّ جهة ما قامت بتمويل دورات في التنمية البشرية والأسرية في تلك الشريحة الاجتماعية كم سيتغير حال مجتمعنا وكم ستقل فيه نسب الخلافات الأسرية والطلاق وكم سيقل عدد الأشخاص الذين يخرجون إلى الحياة وهم معقدون نفسياً وفاشلون اجتماعياً بسبب سوء التربية التي تعرضوا لها؟ أريد أن أدلف من هذه القصة إلى المفهوم الذي خصصت هذا المقال للحديث عنه وهو مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات ولد هذا المفهوم لدى الشركات الغربية منذ حوالي عشر سنوات تقريباً وهو يعني أن تخصص كل شركة جزءاً من أرباحها لتمويل مشاريع تعود بالنفع على المجتمع الذي يحتضن هذه الشركة ولاسيما المشاريع التي تؤدي إلى بناء الإنسان وتحقيق التنمية الاجتماعية. لاشك أن أول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان الذي يسمع عن هذا المفهوم هو أن الشركات الخاصة وجدت لكي تربح وأنها ليست جمعيات خيرية وأن رجل الأعمال الناجح هو الذي يستثمر ماله في مجال يعود عليه بأكبر ربح ممكن، هذا كلام صحيح وبالفعل فقد وجد مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات لكي يزيد من أرباح الشركات وهو يلاقي اليوم رواجاً كبيراً في الشركات الغربية وهي تتنافس فيما بينها في عدد المشاريع التنموية التي تتبناها في مجتمعاتها
كيف تزيد المسؤولية الاجتماعية للشركات من أرباحها؟
- عن طريق الدعاية المباشرة لهذه الشركات التي سيقترن اسمها وعلامتها التجارية مع كل مشروع تنموي تقوم بتمويله، والدعاية هنا ستكون أكثر تأثيراً من الدعاية العادية لأنها ستكون مقترنة بنفع الناس وتلبية حاجاتهم
- عندما توجَّه المشاريع التنموية إلى الموظفين والعمال في هذه الشركات وإلى عائلاتهم فإن ذلك سيزيد من ولاء هؤلاء الموظفين لشركاتهم وعطائهم لها
- إن تثقيف الناس ورفع مستوى وعيهم سيقلل من المشاكل والتوترات التي تحدث في المجتمع وفي البيوت بسبب الجهل وسوء التصرف وهذا كله سينعكس إيجابياً على حياة الموظفين في تلك الشركات بشكل عام وعلى حياتهم المهنية بشكل خاص. تصوروا مثلاً حجم التوتر والمشاكل الموجودة في منزل تلك السيدة التي استعرضت قصتها في البداية وكم سينعكس ذلك سلبياً على زوجها وسلامته النفسية وبالتالي على عمله وإنتاجه
- إن الشركات تحصل على موظفيها وعمالها من المجتمع وكلما ارتفعت السوية الثقافية في مجتمع ما وازداد الوعي فيه تحسنت نوعية الأشخاص الذين يصدِّرهم هذا المجتمع إلى تلك الشركات وبالتالي تحسن أداؤها
- إن ازدياد الوعي في المجتمع بشكل عام سيؤدي على المدى الطويل إلى ارتفاع إنتاجية المجتمع أي إلى تحسن مستواه الاقتصادي وهذا بدوره سينعكس إيجابياً على قدرة الناس على شراء المنتجات والخدمات التي تقدمها تلك الشركات
إضافة إلى ما سبق فإن تمويل مشاريع التنمية البشرية يساهم مباشرة في حماية المجتمع من المخدرات والمشاكل الأخلاقية وقد ذكر لي شخص يعمل مع الأمم المتحدة أن الأمم المتحدة أصبحت اليوم تعتبر دورات التنمية البشرية من أهم عوامل الوقاية من انتشار المخدرات بين الشباب وأن كثيراً من دول العالم تموِّل هذه الدورات تحت بند برامج الوقاية من المخدرات
إن تمويل دورات التنمية البشرية هو أحد أشكال تطبيق مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات وهناك أشكال أخرى مثل مشاريع حماية البيئة وتقديم منح دراسية للمتفوقين وتقديم قروض ميسرة لأصحاب المشاريع الصغيرة وغير ذلك. وتستطيع الدولة أن تشجع الشركات الخاصة على تبني هذا المفهوم من خلال إعفائها من جزء من الضرائب مقابل إنفاق هذا الجزء في مشاريع اجتماعية مفيدة
وأخيراً أقول، إضافة إلى الفائدة المادية التي تجنيها الشركات من تبني مفهوم المسؤولية الاجتماعية، هناك الفائدة الحضارية التي سيجنيها المجتمع بأسره إذ سيرتفع في ذلك المجتمع الشعور بالمسؤولية الاجتماعية عند جميع أفراده ومكوناته، بما في ذلك عند الدولة ومؤسساتها، وسيرتفع تقدير التعلم والتدريب على مهارات الحياة المختلفة وسيساعد ذلك على خلق البيئة المناسبة لرقي المجتمع وتقدمه
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي