ما تريده أمريكا وما يريده المسلم
ماذا تريد أمريكا منا ؟ و كيف تدعو إلى الديمقراطية و هي تعلم أنه لو فسح المجال للشعوب العربية لكي تختار قيادات سياسية معبرة عن إرادتها الحقيقية فستختار قيادات معادية لمصالح أمريكا في المنطقة؟
إن الجواب على هذا السؤال يكمن في السؤال نفسه،فأمريكا لا تريد ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية لأن هذه الديمقراطية ستنتج قيادات سياسية تعادي مصالحها. و السؤال الآن : طالما أن أمريكا لا تريد هذه الديمقراطية فلماذا تنادي بها و تضغط على الحكومات العربية ( إعلامياً و سياسياً على الأقل ) لتمنح شعوبها مزيداً من الحرية؟ لماذا لا تستمر أمريكا في سياستها السابقة القائمة على دعم الأنظمة العربية و السكوت على تجاوزاتها بشأن حقوق الإنسان ما دامت هذه الأنظمة تحمي مصالح أمريكا في المنطقة و ترهب شعوبها بالنار و الحديد لكي لا تهدد هذه المصالح ؟
لكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف أن تاريخ البشرية ليس خطاً ثابتاً بل هو خط متغير يتطور باستمرار و يفرز معطيات و تحديات جديدة تحتاج إلى استجابات جديدة
لقد كانت التحديات التي يواجهها الغرب في المرحلة الماضية ( و أقصد بها المرحلة الممتدة من استقلال الدول العربية إلى نهاية الألفية الثانية تقريباً ) هي استمرار الغرب في احتلاله السياسي و الثقافي للمنطقة العربية ( بعد زوال احتلاله العسكري ) من خلال الأنظمة العربية المكونة من نخب ثقافية و سياسية ( متغرِّبة ) أي أنها مفتونة بالنموذج الحضاري الغربي ( سواء بشقه الليبرالي أو بشقه الماركسي ) و كانت مهمة هذه النخب الحاكمة بما تملكه من أدوات السلطة و الحكم أن تغرِّب الشعوب العربية و أن تطوِّعها ( بالترغيب تارة و بالترهيب تارة أخرى ) لكي تدور في فلك الحضارة الغربية( كانت هذه النخب تعتقد أنها بذلك تطور شعوبها و تمشي بها في طريق التقدمية
لكن الذي حدث هو أن هذه المهمة فشلت بامتياز و ازدادت الشعوب العربية تمسكاً بهويتها الإسلامية ( التي تناقض نزعة الهيمنة عند صناع القرار السياسي في الغرب و لا تناقض الجانب الإنساني من الحضارة الغربية ) و تزامن هذا الفشل في طمس الهوية الإسلامية ( أو في تدجينها و تشويهها على الأقل ) مع خطوات واسعة خطتها البشرية باتجاه الحرية و احترام كرامة الإنسان فانهار الاتحاد السوفيتي أكبر نظام استبدادي على وجه الأرض و انهارت الكتلة الشيوعية في أوربا الشرقية و انهارت كل الديكتاتوريات التي كانت قائمة في أمريكا الوسطى و وصلت رياح الحرية تلك إلى منطقتنا العربية و تزامن ذلك أيضاً مع تطور هائل في وسائل الإعلام و التواصل جعل من الصعب إخفاء بشاعة حالة الظلم و الاستبداد التي تعيشها الشعوب العربية مما جعل استمرار الغرب في دعم الأنظمة الشمولية في العالم العربي أمراً محرجاً و رهاناً خاسراً ، و وجد الغرب أنه لو ترك رياح الحرية و التعددية تصل إلى المنطقة العربية و لو ترك حالة النضج و الوعي عند الشعوب العربية تمضي في تطورها بدون أي تدخل فإن ذلك سينتج أنظمة سياسية معادية له. أمام هذه المعطيات و التحديات الجديدة كان لا بد من استجابة جديدة و تجلت هذه الاستجابة في التدخل العسكري المباشر و إعادة احتلال المنطقة العربية مرة أخرى بدءاً بأهم بلد عربي و هو العراق ( إن الخلاف الذي حدث بين الولايات المتحدة و بعض الدول الأوربية حول غزو العراق كان خلافاً سياسياً عابراً و لم يكن خلافاً جوهرياً بدليل أن هذه الدول أقرت بعد ذلك بالاحتلال الأمريكي للعراق من خلال قرار أصدره مجلس الأمن
لكن هذا الاحتلال العسكري يجب أن يكون مبرَّراً بذريعة أخلاقية تمنع بروز معارضة قوية له سواء على صعيد الرأي العام العالمي أو على صعيد الرأي العام في الولايات المتحدة و الدول الغربية فكانت المناداة بالحرية و الديمقراطية و الإصلاح هي الذريعة الأخلاقية. هذا الاحتلال العسكري سيسعى إلى تفتيت المنطقة العربية و إشعال الفتن الطائفية فيها و تحويلها إلى أتون مشتعل بالحروب و الدماء مما سيمهِّد لمزيد من التدخل الغربي العسكري و السياسي في المنطقة العربية و يحول دون استقرار هذه المنطقة و نهوضها الحضاري الذي سيحولها من منطقة تابعة لأمريكا إلى منطقة ذات إرادة حرة و قرار مستقل
هذا ما تريده أمريكا لنا . فماذا الذي نريده نحن لأنفسنا؟؟ بما أنني لا أستطيع التكلم إلا عن نفسي فقط فسأقول ما الذي أريده أنا لنفسي و لوطني و لأمتي و للبشرية جمعاء.. إنني كمسلم أعتقد أن الله قد خلقني لأداء رسالة عظيمة محورها تكريم الإنسان ( و لقد كرمنا بني آدم ) و تكريم الإنسان يعني تحريره من أغلال الطغاة و المستبدين، بناء على ذلك سأقول ما الذي أريد: أريد حياة خالية من الظلم و الاستبداد ، أريد دولاً يسود فيها النظام و القانون ، أريد دولاً لا يؤلَّه فيها رئيس أو زعيم بل يخضع للنظام و القانون و المساءلة و الانتقاد مثل أي إنسان آخر ( بعيداً عن الإساءة و التجريح مثل أي إنسان آخر أيضاًُ!) ، أريد دولاً تمارس فيها الشعوب حقها في المشاركة السياسية و في تشكيل أحزاب تتنافس في خدمة الناس و رفع مستوى حياتهم ، أريد نظاماً سياسياً تعددياً يصل فيه إلى الحكم و يبقى في الحكم من يثبت أنه الأصدق و الأشجع و الأذكى و ليست أنظمة شمولية يصل فيها إلى الحكم و يبقى في الحكم من يثبت أنه أكثر قسوة و إجراماً و وحشية ، أريد مجتمعات تتنافس فيها الأحزاب و الأفكار و الطروحات بقوة الأخلاق و المنطق و الحوار و النتائج العملية و تحت سقف النظام و القانون و ليس بقوة النار و الحديد بعيداً عن أي نظام و قانون. هذا ما أريده و إن فهمي للإسلام على أنه دين يكرِّم الإنسان و شعوري بقيمة هذه الكرامة التي منحها الله تعالى للإنسان يجعلني أرفض من أي جهة على وجه الأرض أن تعتدي على كرامتي أو على كرامة أي إنسان آخر.عندما نفهم ديننا نحن الشعوب العربية المسلمة بهذا الشكل سنعرف ما الذي نريده و سنحترم أنفسنا إلى درجة تدفعنا إلى بذل الغالي و الرخيص لتحقيق ما نريده و عندما نحترم أنفسنا ستحترمنا شعوب الأرض و ستقف إلى جانبنا في معركتنا ضد الظلم و الاستبداد سواء كان من الداخل أو من الخارج . عندما نصنع في بلادنا مجتمعات تتحقق فيها الحرية و العدالة و الكرامة الإنسانية ستفقد أمريكا أي مبرر للتدخل في شؤوننا بل سينفضح كذبها و ادعاؤها و سنصبح نحن من يحمل راية الحرية و العدالة و الكرامة الإنسانية و سنصبح نحن و معنا كل الأحرار و الشرفاء في العالم من يطالب أمريكا بمراجعة نفسها و إصلاح سياساتها
2005 - الدكتور ياسر تيسير العيتي