المقـــاومــة السلمية أفضل طريق لبناء المجتمعات الحرة
تُعرَّف المقاومة السلمية أو ما يسمى بالعصيان المدني بأنها "التعبير الواعي والمنظم عن رفض قوانين السلطة وممارساتها وذلك بعيداً عن أي شكل من أشكال العنف الجسدي أو اللفظي مع إدراك من يقومون بهذا الرفض لاحتمال تعرضهم للأذى من قبل السلطة" إن العصيان المدني هو إحدى الطرق التي يتم من خلالها التخلص من الأنظمة الديكتاتورية واستبدالها بأنظمة تعددية وإن كان هذا التحول لا يعني قيام مجتمعات ديمقراطية بين عشية وضحاها فالديمقراطية ثقافة لا تُبنى في المجتمعات بمجرد سقوط الأنظمة الديكتاتورية وإنما تحتاج إلى سنوات من التوعية والممارسات المنظمة التي تدعمها مؤسسات المجتمع المدني
كيف يتم تغيير الأنظمة الديكتاتورية؟
هناك ست وجهات نظر شائعة حول الطريقة التي يمكن بها تغيير الأنظمة الديكتاتورية
1- المقاومة المسلحة: وهذه الطريق تستدعي ردة فعل عنيفة من النظام الديكتاتوري، وبما أن هذه الأنظمة عادة ما تكون متفوقة على المقاومة في العدد والعدة فهي غالباً ما تحقق انتصاراً كاسحاً على الطرف الآخر مما يؤدي إلى وقوع المجتمع في فخ الإحباط والخوف وعادة ما تحسن الأنظمة الديكتاتورية استثمار هذا الانتصار فتقوم (بصيانة) الإحباط والخوف المنتشرين في المجتمع (بتذكير) الناس بين حين وآخر ببطشها ووحشيتها عن طريق قمع المعارضين بشكل دوري منظم
2- الانقلاب العسكري: وهو غالباً ما يأتي بنظام ديكتاتوري جديد لا يختلف عن سابقه إلا بالشعارات
3- الانتخابات: إن الانتخابات التي تتم في ظل الأنظمة الديكتاتورية هي دائماً انتخابات شكلية ونتائجها مزورة ولا يمكن لنظام ديكتاتوري أن يسمح للشعب بحرية الاختيار فهذا يتناقض مع تعريف النظام الديكتاتوري
4- التفاوض: إن الأنظمة الديكتاتورية لا تعترف بالمعارضة وترفض التفاوض معها وهي عندما تلجأ إلى التفاوض فإنما تفعل ذلك عند شعورها بالضعف ولخداع الرأي العام أو لامتصاص الضغوط الخارجية وإذا اختارت المعارضة الدخول في مفاوضات مع النظام الديكتاتوري فعليها أن تدرك أن هذه المفاوضات ليست من أجل الوصول إلى تسوية فلا تسوية عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب وحريته وكرامته، وإنما من أجل إقناع النظام الديكتاتوري بوقف الحرب على شعبه وإقامة انتخابات حرة والاعتذار إلى الشعب وهنا يجب أن نتذكر أن الحرية لا تُمنح للشعوب عن طريق المفاوضات وإنما تُنتزع انتزاعاً عن طريق المقاومة، والمقاومة السلمية (كما سنجد في هذا البحث) هي أنجح أنواع المقاومة في وجه الأنظمة الديكتاتورية
5- التدخل الخارجي: وهو ليس إلا استبدالاً للديكتاتور الداخلي بديكتاتور خارجي، وهو يبث الفتنة في المجتمع لأنه يقسم الناس إلى (متعاونين) مع المحتل و(مقاومين) له، كما أن استخدام المحتل للعنف والقوة العسكرية للإطاحة بالنظام الديكتاتوري يرسخ ثقافة العنف في المجتمع بوصفه طريقاً وحيداً للتغيير، إضافة إلى أن الانهيار المفاجئ لأجهزة الدولة الذي قد يصاحب الاحتلال العسكري يؤدي إلى اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية خطيرة ولا ننسى هنا أن هذا التدخل يتم خدمة لمصلحة المحتل بالدرجة الأولى، تلك المصلحة لا تتفق بالضرورة مع مصلحة البلاد بل تتناقض معها في كثير من الأحيان
6- المقاومة السلمية أو العصيان المدني وهو يشمل عدداً من الطرق والتكتيكات تتراوح ما بين توقيع عريضة احتجاج إلى الإضرابات والاعتصامات وقد أحصى (جين شارب) حوالي مئتي طريقة من طرق العصيان المدني في كتابه (من الديكتاتورية إلى الديمقراطية). لقد أثبتت التجربة الإنسانية حتى اليوم أن العصيان المدني هو أنجح السبل في التخلص من الأنظمة الاستبدادية وبناء المجتمعات الحرة
لماذا لا يؤمن البعض بالمقاومة السلمية؟
1- يعتقد البعض أن المقاومة السلمية تعني السلبية والاستسلام وهي أبعد ما تكون عن ذلك كما سأبين في هذا البحث، المقاومة السلمية هي مقاومة فعالة تحتاج إلى رجال ونساء في قمة الذكاء والشجاعة وإلى الكثير من التصميم والجهد والتخطيط، وقد نجحت هذه المقاومة في الإطاحة بالكثير من الأنظمة الديكتاتورية في العالم، على الرغم من وحشية تلك الأنظمة ودمويتها
2- تختزن ذاكرة بعض الشعوب تجارب سلبية فشلت فيها المقاومة السلمية وهذا الفشل لا يعود إلى كون المقاومة قد ابتعدت عن استخدام الأساليب العنيفة وإنما يعود إلى إخفاق منظمي هذه المقاومة في الإعداد والتخطيط وإلى عدم فهم القسم الأكبر من المجتمع ومن من الذين شاركوا في تلك التجارب لمفهوم المقاومة السلمية وتكتيكاتها
3- إن الطريقة العنيفة التي وصل بها النظام الديكتاتوري إلى الحكم والأساليب العنيفة التي يستخدمها مع شعبه تكرس ثقافة العنف في المجتمع وتجعل منطق المقاومة التي تصل إلى أهدافها بالطرق السلمية منطقاً غريباً وغير مقبول من قبل عامة الناس وربما يتهم حامل هذا المنطق بالمثالية أو الجبن
من أين يستمد النظام الديكتاتوري أسباب وجوده؟
هناك نوعان من الأنظمة السياسية في العالم
1- الأنظمة التعددية (أو الديمقراطية) وهي الأنظمة التي تستمد أسباب وجودها من رضى غالبية الشعب عنها وثقته بها واعتقاده بأنها تحرص عليه وتمثل قيمه ومصالحه
2- الأنظمة الديكتاتورية (أو الشمولية) وهي الأنظمة التي لا ترضى غالبية الشعب عنها و لا تثق بها ولا تعتقد بأنها تحرص عليها وتمثل قيمها ومصالحها ومع ذلك تظل هذه الأنظمة في الحكم بسبب (خوف) الناس من معارضتها لما تبديه من وحشية وقسوة في قمع معارضيها وفي بعض الأحيان يمتزج هذا الخوف بإيمان بعض الناس بالـ (الشرعية) التي يضفيها النظام الديكتاتوري على نفسه حيث يخدع الناس ويوهمهم بأن واجبهم (الأخلاقي أو الوطني أو الديني) يقتضي منهم طاعة النظام، وبسبب قلة الوعي والآلة الإعلامية الجبارة التي يمتلكها النظام الديكتاتوري وإسكات الأصوات المعارضة تنطلي هذه الخدعة على بعض الناس على الرغم من الانتهاكات اليومية الصارخة التي يبديها النظام الديكتاتوري لكل ما يمت إلى الأخلاق أو الوطنية أو الدين بصلة
إذن النظام الديكتاتوري يستمد أسباب وجوده من (الخوف) و(الخداع)، لذلك أول ما يقوم به هذا النوع من الأنظمة عند استيلائه على السلطة هو منع كل أشكال التعبير وإزالة المعارضة الفردية والجماعية وذلك بحل الأحزاب السياسية وملاحقة المعارضين وقتلهم وسجنهم وتعذيبهم ونفيهم، ثم يتجه النظام إلى إضعاف مؤسسات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وفي بعض الأحيان يقوم بإلغائها واستبدالها بمؤسسات تابعة له مهمتها الأساسية دعم النظام الديكتاتوري وتشديد قبضته على الدولة والمجتمع (مع أن مؤسسات المجتمع المدني هي بالتعريف مؤسسات مستقلة عن السلطة!). وهكذا يقوم النظام الديكتاتوري وبشكل منهجي بالقضاء على أية زعامة في المجتمع غير زعامته وبتحويل أفراد المجتمع إلى أشخاص منعزلين سلبيين لا يعرفون المبادرة ولا يثقون ببعضهم البعض وغير قادرين على العمل الجماعي من أجل الوصول إلى الحرية، نتيجة لذلك يضعف المجتمع ويفقد ثقته بنفسه وبقدرته على المقاومة، في مجتمع كهذا لا يعبر الناس عن كرههم للدكتاتورية وتوقهم إلى الحرية ولا يفكرون في أي شكل من أشكال المقاومة بل يعانون بصمت ويعيشون حياة كئيبة لا غاية لها منتظرين مستقبلاً بائساً لا أمل فيه. السؤال الآن: إذا كانت الأنظمة الديكتاتورية تملك كل هذه القوة والتحكم في المجتمع فكيف استطاعت بعض الشعوب أن تزيل ديكتاتوريات من أعتى وأقسى الديكتاتوريات في العالم؟ الجواب على السؤال يكمن في شقين: أولاًُ؛ إن الأنظمة الديكتاتورية لديها إضافة إلى نقاط قوتها الكثير من نقاط الضعف وهي في الحقيقة تحمل بذور فنائها في داخلها كما أن المجتمعات لديها الكثير من الكمون ونقاط القوة، ثانياً؛ إن المقاومة السلمية قادرة على تعميق نقاط الضعف في الأنظمة الديكتاتورية وتفعيل نقاط القوة في المجتمعات بحيث تنتصر رغبة الشعب في الحياة الحرة الكريمة في نهاية المطاف على النظام الديكتاتوري. وسأبدأ بالحديث عن نقاط ضعف الأنظمة الديكتاتورية
نقاط ضعف الأنظمة الديكتاتورية
1- النظام الديكتاتوري يعتمد على البيروقراطية والروتين ويجمع الصلاحيات في يد مجموعة قليلة من الأفراد وهذا يحد من قدرة النظام على التأقلم السريع مع الظروف الجديدة
2- خوف الأتباع من إغضاب قادتهم سوف يحملهم على نقل صور ناقصة إليهم أو حجب بعض المعلومات عنهم مما يؤثر على صواب القرارات التي يتخذها هؤلاء القادة
3- بما أن النظام الديكتاتوري يعتمد على أشخاص يقدمون مصالحهم الشخصية على أي اعتبارات أخلاقية أو وطنية فلا بد أن يأتي اليوم الذي تتضارب فيه مصالح هؤلاء الأشخاص مع بعضها البعض مما يؤدي إلى صراعات داخلية ويزعزع الثقة بين أركان النظام وهذا بدوره يحد من فعالية النظام وقد يؤدي أحياناً إلى انهياره
4- إن الأجيال الجديدة في المجتمع التي لم تعاصر قمع النظام – ذلك القمع الذي لم يعد النظام بحاجة إلى استخدامه بنفس الوحشية السابقة بسبب خضوع المجتمع له - تكون أقل خوفاً من الأجيال التي سبقتها وأكثر جرأة على معارضة النظام الديكتاتوري
5- تخلق الأنظمة الديكتاتورية فروقاً طبقية ومناطقية في المجتمع، هذه الفروق تزداد بمرور الزمن مما يولد صراعات فيما بينها يعجز النظام عن احتوائها
6- عندما يتم اتخاذ الكثير من القرارات من قبل القليل من الأشخاص يزداد احتمال ارتكاب الأخطاء في المحاكمات والقرارات والأفعال
إن تراكم الخبرات الإنسانية فيما يتعلق بمقاومة الأنظمة الديكتاتورية وازدياد عدد الأنظمة التي استطاعت هذه الخبرات الإطاحة بها مع تطور وسائل التواصل التي تسهل تناقل هذه الخبرات، إضافة إلى تطور وسائل الإعلام التي لم تعد تجعل من السهل على النظام الديكتاتوري إخفاء قمعه ووحشيته، إضافة إلى نقاط الضعف التي انتهينا من ذكرها قبل قليل كل ذلك يجعل التخلص من النظام الديكتاتوري أمراًُ ممكناً إذا توفرت في المجتمع قيادات واعية وشجاعة قادرة على الأخذ بيده في طريق الحرية
لماذا المقاومة السلمية؟
أريد أن أبدأ حديثي عن سر نجاح المقاومة السلمية بهذه القصة الرمزية المستمدة من الأدب الصيني وهي قصة "سيد القرود
يحكى أن رجلاً عجوزاً احتجز عدداً كبيراً من القرود ووضعهم في حظيرة كبيرة وطلب من كبيرهم أن يقودهم في كل صباح ليقطفوا الفواكه من أشجار الغابة ويعطوه العشر، وكل من يخالف هذه القاعدة كان يتعرض لعقوبة الجلد. الكل كان يعاني بصمت ولم يعترض أحد
ذات يوم سأل قرد صغير بقية القرود: هل الرجل العجوز هو من زرع أشجار الفواكه هذه؟
أجابه القرود: إنها تنمو لوحدها بشكل طبيعي
سأل الصغير: هل يمكننا أن نجني الفواكه من دون أن نأخذ إذن الرجل العجوز؟
أجابه القرود: نعم
تابع القرد الصغير: إذاً لماذا يجب علينا الاعتماد على العجوز وخدمته؟
فجأة شعر القرود وكأنهم استيقظوا من نوم طويل! وفي نفس الليلة هجم القرود على سياج الحظيرة فحطموه وأخذوا من المخزن كل الفواكه التي جمعها منهم الرجل العجوز ثم انطلقوا إلى الغابة وتركوا العجوز لوحده ليموت من الجوع
نعم إن بعض الرجال في هذا العالم يحكمون شعوبهم بالخداع تماماً كهذا الرجل العجوز وعندما يستيقظ الناس ويدركون الخدعة تفقد قدرتها على التأثير
تعتمد المقاومة السلمية على المبدأ البسيط التالي: " إن سلطة النظام الديكتاتوري تأتي من خضوع الناس والمؤسسات له، فإذا أزلنا هذا الخضوع نكون قد سحبنا السلطة منه
لقد كان غاندي يقول" إن البريطانيين لا يحكمون الهند لأنهم أقوى من الشعب الهندي، هم يحكمون الهند لأن الشعب الهندي يخاف منهم وفي الوقت الذي يتخلص فيه الهنود من خوفهم عندها سينتهي حكم بريطانيا" وهذا ما حدث بالفعل
إن أكبر نقاط قوة النظام الديكتاتوري هو قوته المسلحة في حين أن أكبر نقاط ضعف المعارضة هي افتقارها إلى هذه القوة لذلك تفشل المقاومة المسلحة لأنها تعني مواجهة أقوى نقطة عند النظام بأضعف نقطة عند المعارضة. إن المقاومة السلمية تقلب هذه المعادلة رأساً على عقب؛ فعندما يقف مجموعة من المتظاهرين العزل الذين يدافعون عن حرية الشعب وكرامته في وجه مجموعة من حملة العصي أو الأسلحة الذي يدافعون عن نظام ديكتاتوري يغتصب حرية الشعب ويعتدي على كرامته، فذلك يعني أن المعارضة تستخدم أقوى نقطة لديها وهي تفوقها الأخلاقي وشرعيتها المستمدة من تعبيرها عن قيم الشعب ومصالحه في مواجهة أضعف نقطة لدى النظام الديكتاتوري وهي تنكُّره للقيم الأخلاقية والإنسانية . إن الناس ينحازون بفطرتهم إلى جانب القيم الأخلاقية ومشاعرهم تحركها مشاهد البطولة والشجاعة وإن استماتة مجموعة من المقاومين في الدفاع عن حقوق الشعب وإخلاصهم وتصميمهم سيشجع شرائح جديدة من الشعب على الانضمام إلى صفوف المقاومين وهكذا تمتلك المعارضة السلطة الأخلاقية التي تقوى تدريجياً كلما استمرت المقاومة السلمية وازداد عدد المشاركين فيها. إن اندلاع المقاومة السلمية بشكل عشوائي وبدون تخطيط واستراتيجية واضحة سيجعل من السهل على النظام الديكتاتوري سحق هذه المقاومة مما يؤدي إلى نتائج عكسية فنزداد سطوة النظام ويزداد خوف الناس منه
إن استمرار المقاومة السلمية يزيد بالتدريج من ثقة الناس بقدرتهم على المقاومة
والذين يحملون رؤية لتحرير مجتمعهم يجب أن يعدوا خطة استراتيجية محكمة طويلة الأمد آخذين بعين الاعتبار قدرات مجتمعهم وموارده ومعدين أنفسهم لكل الاحتمالات ولصراع طويل الأمد مع السلطة الديكتاتورية قد يمتد إلى شهور أو سنوات
إن تأثير المقاومة السلمية لا ينتهي بزوال النظام الديكتاتوري فهي تلعب دوراً كبيراً في إعداد المجتمع لمرحلة (ما بعد النظام الديكتاتوري) إذ أنها تدرب الناس على ممارسة الحرية في التعبير والوقوف في وجه من يظلمهم كما أنها توجد الثقافة والأشخاص والمجموعات والمؤسسات القادرة على حماية المجتمع من أي نظام ديكتاتوري في المستقبل وتعزز إيمان الناس بالمقاومة السلمية سبيلاً لتحقيق المكاسب والوقوف في وجه الظالمين مما ينهي دورة العنف في المجتمع وخصوصاً في المجتمعات التي اعتادت على الانقلابات العسكرية طريقاً للوصول إلى الحكم
لنهزم الديكتاتورية في عالم الأفكار أولاً
إن الأفكار التي يحملها الناس في رؤوسهم هي التي تحدد سلوكهم وهذا السلوك هو الذي يحدد النتائج التي يصلون إليها. إن سيطرة النظام الديكتاتوري على المجتمع هو نتيجة لسكوت الناس عليه وعدم معارضتهم له وهذا السكوت هو نتيجة لأفكار معينة يحملها الناس في رؤوسهم. إن أول خطوة للقضاء على الاستبداد هي أن نحدد الأفكار التي تهيئ الناس لقبول الاستبداد ثم نرد على هذه الأفكار بالحجة والمنطق ونعلم الناس الأفكار الجديدة التي تهيئهم لمقاومة الاستبداد. يجب أن نهزم الديكتاتورية في عالم الأفكار أولاً حتى نتمكن من هزيمتها على أرض الواقع. إن أهم فكرتين تهيئان الناس لقبول الاستبداد ويجب تحرير العقول منهما هما:
الفكرة الأولى التي تهيئ الناس لقبول الاستبداد :المجتمع الذي يحكمه النظام الديكتاتوري له خصوصيات معينة وهو غير مهيأ للحرية الموجودة في المجتمعات الديمقراطية
الفكرة الأولى التي تحرر الناس من الاستبداد لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم وجعله مؤهلاً لاتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية وهذه الأهلية تتساوى فيها جميع الشعوب فما أعطى الله للإنسان الأوربي أو الياباني أو الماليزي من فهم وذكاء لا يقل عما أعطاه للإنسان العربي أو الصيني. عندما تُحكم المجتمعات بأنظمة ديكتاتورية لا يُتاح للناس حرية التفكير والتعبير ولا يُفسح لهم المجال للحوار والتكاتف والعمل الجماعي ولا يُمنحون الفرصة لممارسة الخلاف البناء والاحترام المتبادل ولأن المهارات التي لا يستخدمها الإنسان تضمر بالتدريج لذلك تضعف هذه المهارات في المجتمعات المحكومة بأنظمة ديكتاتورية، إذن ضعف المهارات التي تحتاج إليها المجتمعات لممارسة الديمقراطية هو نتيجة لسيطرة الأنظمة الديكتاتورية عليها وليس العكس، نعم قد تكون مهارات ممارسة الديمقراطية ضعيفة في مجتمع ما وفي هذه الحالة السبيل الوحيد لتقوية هذه المهارات هو تفعيلها بمزيد من الممارسة الديمقراطية وليس تعطيلها فذلك يزيدها ضعفاً وهذا ما تفعله الأنظمة الديكتاتورية.
الفكرة الثانية التي تهيئ الناس لقبول الاستبداد: الديكتاتورية تحقق الأمن والاستقرار ومقاومة النظام الديكتاتوري ستدخل المجتمع في حالة من الاضطراب والفوضى
الفكرة الثانية التي تحرر الناس من الاستبداد أبسط تعريف للشعور بالأمن هو شعور الإنسان بأنه محميٌّ من أي اعتداء عليه أو على عرضه أو على ماله. فهل هذا هو الشعور الذي يشعر به الناس الذين يعيشون في ظل الأنظمة الديكتاتورية أم أنهم يشعرون بعكس ذلك تماماً؟ الأمن الحقيقي الراسخ تحققه العدالة (العدل أساس الملك) وسيادة القانون، والنظام الديكتاتوري يقوم على الظلم ويجعل نفسه فوق القانون، بل إن النظام الديكتاتوري هو من يمارس الاعتداء على المجتمع بشكل منهجي منظم، أولاً هو يعتدي على أغلى ما يملكه الناس وهي حريتهم ثم يعتدي على حقوقهم وأموالهم وأعراضهم، أما الأمن الذي يحققه فهو أمنه وليس أمن المجتمع، أمن اللص الذي ينهب البلاد والعباد من دون خوف لأن أجهزته الأمنية زرعت الرعب في قلوب الناس فلم يعد يجرؤ أحد على مقاومته
من المؤكد أنه عندما تبدأ المقاومة السلمية فإن المجتمع سيدخل في حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، وحتى بعد زوال النظام الديكتاتوري من الطبيعي أن لا تستقر الأمور في المجتمع بين عشية وضحاها لأن الناس الذي حُكموا عقوداً من الزمن بنظام ديكتاتوري قام على البطش والتنكيل وكم الأفواه يحتاجون إلى فترة زمنية (لإعادة تأهيلهم) حتى يصبحوا قادرين على الحوار والاحترام المتبادل والتعاون للوصول إلى الصيغ والحلول التي تتميز بها الحياة السياسية الديمقراطية. وهنا سيحاول النظام الديكتاتوري في أثناء فترة الصراع مع المقاومة السلمية إقناع الناس بالعودة إلى الخنوع والاستسلام ثمناً للحصول على الاستقرار وحتى بعد سقوط النظام الديكتاتوري ستعمل ذيوله على إثارة البلابل والقلاقل انتقاماً من المجتمع الذي لفظها وأملاً في أن يؤدي فشل التجربة الديمقراطية إلى عودة هذا النظام إلى الحكم، لكن إدراك الناس لطبيعة هذه المرحلة سيفشل هذه المحاولات بل سيزيد المجتمع كرهاً للديكتاتورية وأنصارها وتصميماً على السير قدماً في الطريق إلى الحرية. إذن هذه المرحلة من عدم الاستقرار هي مرحلة طبيعية لا يمكن إلغاؤها ولكن بالإمكان تقصير مدتها والتخفيف من حدتها وذلك بتوعية الناس وتهيئتهم لها باعتبارها مرحلة طبيعية وعابرة يجب أن تزيد من إصرار الناس على الحرية لا أن تدفعهم للعودة إلى الوراء. يجب أن تصوَّر هذه المرحلة على أنها مرارة الدواء التي لا بد منها أو أن يظل المريض مريضاً حتى يفتك به المرض، أو ألم الجراحة الذي لابد منه أو أن يبقى السرطان في جسم المريض حتى يقضي عليه. يجب أن يوضع الناس أمام الخيار التالي: هل يفضلون أن يتحملوا بضع شهور أو بضع سنين من عدم الاستقرار مقابل أن يعيشوا بعد ذلك ويعيش أولادهم وأحفادهم والأجيال القادمة إلى ما شاء الله في ظل نظام تعددي يحترم الإنسان ويحفظ الحقوق ويحقق الاستقرار والتنمية أم يفضلون الاستمرار في الصمت والخنوع مقابل أن يعيشوا وأن يعيش أولادهم وأحفادهم والأجيال القادمة إلى ما شاء الله في ظل نظام ديكتاتوري يعتدي على حقوق الناس ويسرق أموالهم ويحييهم حياة منقوصة الإنسانية والكرامة؟ هذا هو الخيار الذي يجب أن يوضع أمام الشعوب في أثناء إعدادها لخوض معركتها الفاصلة من أجل الحرية
التخطيط للمقاومة السلمية
لا يكفي مجرد وجود رغبة قوية في التخلص من النظام الديكتاتوري، ولا يكفي مجرد الاستعداد للتضحية في سبيل ذلك، بل لا بد من وجود خطة واضحة للمقاومة بحيث لا تكون أفعال المقاومة مجرد ردود أفعال على تصرفات النظام وبحيث تعرف المقاومة دائماً ما هي "الخطوة التالية"، إن يأس المقاومة في بعض الأحيان من إمكانية التخلص من النظام الديكتاتوري يدفعها إلى عدم التخطيط وإلى المقاومة لمجرد إرضاء الضمير وتسجيل موقف أخلاقي يذكره التاريخ! إن عدم التخطيط يؤدي إلى تبديد طاقات المقاومة وتعزيز سلطة الديكتاتور وزيادة يأس المجتمع. في التخطيط للمقاومة يجب أن نفرق بين الاستراتيجية العامة والأهداف الاستراتيجية والتكتيكات
الاستراتيجية العامة: وهي تحدد المحاور الأساسية التي ستركز عليها المقاومة والأسئلة التالية تساعد على رسم الاستراتيجية العامة
- كيف نحرر الناس من الأفكار المهيِّئة للاستبداد ونعلمهم المقاومة السلمية؟ كما ذكرنا قبل قليل إن الخطوة الأولى لتحطيم النظام الديكتاتوري هي تحطيم الأفكار التي يحملها الناس في رؤوسهم والتي تؤدي بهم إلى سلوك يمكّن النظام الديكتاتوري من إحكام قبضته على المجتمع
- ما هي أفضل طريقة للبدء بالمقاومة (حدث معين أو مناسبة معينة يمكن استثمارها لإشعال المقاومة) ؟
- ما هي القضايا التي تنال أكبر اهتمام من أوسع شريحة من الشعب؟
- كيف يمكن للناس أن يتغلبوا على ضعف الثقة بالنفس ويتحركوا لتحدي الديكتاتور ولو بشكل محدود في البداية؟
- كيف يمكن تصعيد قدرة الشعب على التحدي مع مضي الوقت وتراكم الخبرات؟
- كيف نوجد آليات للتواصل ونقل المعلومات واتخاذ القرارات في أثناء فترة الصراع؟
- ما هي المؤسسات المستقلة عن سيطرة النظام وكيف يمكن الاستفادة منها في الصراع من أجل الحرية؟
- ما هي المؤسسات التي سيطر عليها النظام والتي يمكن إخراجها من قبضته؟
- ما هي المؤسسات التي يمكن إنشاؤها من أجل تلبية متطلبات الكفاح ضد النظام الديكتاتوري؟
- كيف يمكن التحرك بطريقة تستنزف مصادر قوة النظام الديكتاتوري بشكل تدريجي؟
- كيف يمكن للمجتمع أن يلبي احتياجاته الأساسية (الغذاء، الماء، الدواء، مصادر الطاقة ) في فترة الصراع؟
- عندما يلوح النصر في الأفق كيف يمكن للقوى الديمقراطية أن تبني المؤسسات التي ستكفل للمجتمع في مرحلة (ما بعد الديكتاتورية) الحفاظ على الديمقراطية؟
هذه الاستراتيجية العامة يجب إعلانها للناس لأنها تشجعهم وتشعرهم بتصميم المقاومة على الإطاحة بالنظام الديكتاتوري، كما أنها تحد من بطش النظام لأنه سيعلم أن كل عمل يقوم به ضد المقاومة ستكون له نتائجه السياسية، إن وجود استراتيجية واحدة معلنة تمكن مجموعات المقاومة من اللامركزية في اتخاذ القرار وتعطيها المرونة والقدرة على التحرك والإبداع في اختيار التكتيكات المناسبة لتحقيق هذه الاستراتيجية من دون تشتيت الجهود لأن كل التكتيكات سيتم اختيارها بحيث تحقق استراتيجية واحد
إن إعلان الاستراتيجية لا يعني بالطبع كشف التكتيكات المرتبطة بطبيعة التحركات التي ستلجأ إليها المقاومة وزمانها ومكانها فهذه الأمور تظل طي الكتمان من أجل مفاجأة النظام الديكتاتوري وإرباكه واستنزافه. إن سير الصراع قد يفرض تعديلات على الاستراتيجية إذ قد يبدي النظام مقاومة أكثر مما هو متوقع أو قد ينهار سريعاً مما يقتضي مراجعة الاستراتيجية وتعديلها باستمرار
الأهداف الاستراتيجية: يعرَّف الهدف الاستراتيجي بأنه سلوك معين يراد من مجموعة معينة من الناس أن تقوم به استجابة للتكتيك السلمي ويتم تحديد الهدف الاستراتيجي وفقاً للاستراتيجية العامة. فمثلاً إذا كانت الاستراتيجية العامة تقضي برفع قبضة السلطة الديكتاتورية عن النظام القضائي فإن الهدف الذي يخدم هذه الاستراتيجية هو إجبار السلطة على إطلاق سراح قاض اعتُقل لأنه لم يغير حكمه استجابة لطلب الجهات الأمنية والتكتيك السلمي الذي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق هذا الهدف هو إضراب المحامين عن العمل ليوم واحد أو الاعتصام في نقابة المحامين أو الخروج بمظاهرة يحمل فيها المتظاهرون تابوتاً يرمز إلى موت القضاء والعدالة وما إلى ذلك... إذن الهدف الاستراتيجي هو الحلقة التي تربط بين التكتيك السلمي والاستراتيجية العامة ومن البديهي تحديد الهدف الاستراتيجي أولاً ثم تصميم التكتيك الذي يضمن تحقيق هذا الهدف. كذلك لا بد من الإعلان عن الهدف الاستراتيجي من وراء أي تكتيك تقوم به المقاومة لأن ذلك يعطي قوة دعائية للتكتيك وهو يمكِّن المقاومة أحياناً من النجاح في تحقيق هدفها حتى لو فشل التكتيك السلمي بحد ذاته؛ ففي المثال الذي ذكرناه سابقاً يمكن للسلطة أن تفرق بالقوة اعتصاماً سلمياً للمحامين في سبيل الإفراج عن قاض معتقل فيؤدي ذلك إلى ضجة إعلامية كبيرة تلفت انتباه الرأي العام المحلي والعالمي إلى قضية ذلك القاضي أكثر مما لو تُرك المعتصمون وشأنهم مما يجبر السلطة في النهاية على إطلاق سراحه، وهذه إحدى أهم ميزات التكتيكات السلمية فالسماح بها يؤدي إلى تسجيل نقطة لصالح المقاومة وقمعها يؤدي إلى تسجيل نقطة لصالح المقاومة أيضاً
التكتيكات السلمية: وهي الخطوات العملية التي تقوم بها المقاومة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية وبالتالي لتحقيق الاستراتيجية العامة. عند تحديد التكتيكات السلمية يجب أخذ النقاط التالية بعين الاعتبار
- تحديد الهدف الاستراتيجي لكل تكتيك وكيف يصب هذا الهدف في تحقيق الاستراتيجية العامة
- تحديد البنية القيادية للمقاومة ونظام التواصل مع الشعب وكيفية جمع المعلومات واتخاذ القرارات على أساسها
- بناء نظام لنقل أخبار المقاومة إلى الشعب وإلى الرأي العام العالمي والحرص على الدقة والصدق وعدم المبالغة للحفاظ على مصداقية المقاومة
- الاستثمار الأفضل لموارد المجتمع بحيث تحقق أفضل الأهداف السياسية بأقل الخسائر الممكنة
- إشراك أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع (الطلاب، العمال، الفلاحون، النساء، الأكاديميون، المحامون، وهكذا..) مما يخفف العبء على كل شريحة من هذه الشرائح
- الحزم في التعامل مع حالات الاعتداء على المقاومة بفضح هذه الحالات إعلامياً ومقاضاة مرتكبيها وتحويلها إلى مادة جديدة تتحرك المقاومة من أجلها ووقود جديد تذكي به ثورتها السلمية وهكذا يصبح الثمن السياسي لقمع المقاومة باهظاً فيتراجع القمع مما يشجع شرائح جديدة من المجتمع على الانخراط في صفوف المقاومة السلمية
وهذه بعض الأمثلة عن التكتيكات السلمية
- إرسال رسائل دعم علنية للمقاومة السلمية من مؤسسات وشخصيات مرموقة في المجتمع
- توقيع عريضة من الشعب
- الكتابة في الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية
- إرسال رسائل احتجاج بالبريد الالكتروني إلى أركان النظام الديكتاتوري ومؤسساته
- الاعتصامات
- المسيرات الراجلة ومسيرات السيارات والدراجات النارية والدراجات الهوائية
- وضع أعلام أو شعارات المقاومة على النوافذ وشرفات المنازل
- كتابة شعارات المقاومة على الأرض والجدران
- توزيع المواد التي تشجع على المقاومة السلمية سواء كانت مسموعة أو مقروءة أو مرئية
- لبس قمصان تحمل شعارات المقاومة
- الإضراب
- استخدام اللافتات واللوحات والمجسمات الرمزية في المسيرات والاعتصامات
- مقاطعة الانتخابات
- الجلوس والاستلقاء في الشوارع
- الإنشاد الجماعي للأناشيد الوطنية والحماسية
- الإضراب عن الطعام
- تصميم بوسترات تظهر صور قمع السلطة للمقاومة وإلصاق هذه البوسترات على الجدران
هذا غيض من فيض وكما ذكرت فقد أحصى (جين شارب) في كتابه ( من الديكتاتورية إلى الديمقراطية) حوالي مئتي تكتيك سلمي وقد أوردت في نهاية البحث قائمة بالمراجع التي يمكن العودة إليها لتعلم التكتيكات السلمية وتستطيع عقول أبطال المقاومة السلمية من شباب وشابات أن تبدع عشرات بل مئات التكتيكات التي تتناسب مع ظروف كل مجتمع وخصوصاً أن التقنيات الحديثة في التصوير والنسخ والاتصالات وفرت خيارات كثيرة لم تكن لدى المعارضات الديمقراطية قبل عشرين عاماً ومع ذلك استطاعت تلك المعارضات أن تسقط أعتى الأنظمة الديكتاتورية في العالم وأشدها بطشاً ووحشية كما تبين الأمثلة التي سأوردها بعد قليل. إن نجاح الصراع مع النظام الديكتاتوري يعتمد على أمرين مهمين (الاستمرارية) و(التجديد) أي استمرار المقاومة السلمية في مقابلة الأساليب القمعية للنظام الدكتاتوري بأساليب جديدة وإدخال شرائح جديدة من المجتمع في المقاومة ونقل الصراع من ساحة إلى أخرى بما يكفل استنزاف النظام وتشتيت قوته. إن المقاومة السلمية تتفاعل مع عوامل أخرى كبنية النظام الديكتاتوري وعلاقاته الإقليمية والدولية هذا التفاعل قد يسرع أو يبطئ من انهيار النظام لذلك تختلف الفترة الزمنية الممتدة ما بين بدء المقاومة السلمية وانهيار النظام الديكتاتوري من بلد إلى آخر فقد تستغرق عقداً من الزمن كما حدث مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا أو عدة شهور كما حدث مع الأنظمة الديكتاتورية في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا أو عدة أسابيع كما حدث مع النظام الديكتاتوري في صربيا أو عدة أيام كما حدث مع ديكتاتور رومانيا تشاوتشيسكي! إن ما تتميز به المقاومة السلمية هو أن عواقبها تتجاوز بكثير مكان وزمان الأحداث؛ فاغتيال رمز من رموز المقاومة أو سقوط عدد من القتلى في مظاهرة سلمية قد يكون كافياً لقلب ميزان القوة في المجتمع لصالح المقاومة بين عشية وضحاها وعندها يتوقف أركان النظام الديكتاتوري عن التخطيط لإفشال المقاومة ويبدءون بالتخطيط للهروب من البلاد
اللاعنف ثم اللاعنف ثم اللاعنف
إن النظام الديكتاتوري يدرك تفوق المقاومة عليه في المعركة الأخلاقية المعتمدة على الأخلاق والمنطق، لذلك سيحاول جر المقاومة إلى المعركة التي يستطيع أن يربح فيها وهي معركة العنف والبطش! وسيعمل على استفزاز المقاومة بشتى الأساليب وسيرسل قواته لتعتدي على المقاومين جسدياً ولفظياً وهنا على المقاومة أن لا تقابل العنف بالعنف والاعتداء بالاعتداء، فالضرب بجب أن يُصد بأقل درجة من العنف الجسدي، والشتم والتخوين لا يُرد عليه بالمثل وإنما بترديد الشعارات الوطنية، يجب أن يظهر أمام الرأي العام الفرق الكبير بين سلوك المقاومة الحضاري الرفيع وسلوك قوات النظام الوحشي الهمجي، ويجب الحرص على إشعار القوات التي يدفع بها النظام لمحاربة المقاومة بأن المقاومة حريصة على سلامة هذه القوات وهي لا تريد إيذاءها وإنما تريد تخليص المجتمع من قبضة الديكتاتورية، إن مهاجمة قوات النظام سيزيد من ولائها له أما تجنب ذلك فسيؤدي إلى نتيجة عكسية، وحتى عندما يقرر بعض أفراد قوات النظام أو قادتهم التمرد على أوامر النظام (ذلك التمرد الذي قد يسميه النظام خيانة وقد تكون نتيجته الإعدام) فيجب على المقاومة - وخصوصاً في البداية وقبل أن يشتد ساعدها - أن تبين لهؤلاء المتمردين أنها لا تريد منهم أن يظهروا تمردهم حرصاً على سلامتهم ويكفي أن تكون طاعتهم للنظام (طاعة ظاهرية) كأن يتظاهروا بالاشتباك مع أفراد المقاومة من دون أن يضربوهم ضرباً مبرحاً أو إذا طلب منهم إطلاق النار أن يطلقوه في الهواء بدلاً من إطلاقه على المتظاهرين. عندما تلتزم المقاومة بمبدأ (اللاعنف) فهي تجر النظام إلى المعركة التي تستطيع أن تربح فيها وهي كما قلنا المعركة الأخلاقية المعتمدة على الأخلاق والمنطق - هاتين الصفتين اللتين لا يملك النظام منهما شيئاً-، وهكذا كلما اشتدت وحشية النظام ونزقه وانفلات أعصابه قابلته المقاومة بمزيد من الانضباط والتصميم على عدم الانجرار إلى العنف والالتزام بتكتيكات المقاومة السلمية. يجب أن يدرك منظمو المقاومة السلمية أن هدفهم هو إبراز ظلم النظام وعدم إنسانيته للرأي العام المحلي والعالمي و في الوقت نفسه كسر حاجز الخوف الذي بناه في قلوب الناس، ذلك الحاجز لا تكسره إلا قصص ومشاهد أبطال المقاومة وهم يتحدون بقاماتهم المرفوعة وصدروهم العارية بطش النظام ووحشيته، لنتصور أن عالماً من علماء الدين له وزنه ومكانته عند الناس تقدم إحدى المظاهرات السلمية فانهال عليه رجال النظام ضرباً حتى أدموه فالتقط أحد شباب المقاومة صورة له وقد شج رأسه من الضرب وتخضبت لحيته البيضاء بالدماء، ثم نشرت هذه الصورة بين الناس (عن طريق الجوالات والانترنت مثلاً) ما الذي ستفعله هذه الصورة في نفوس الناس؟ أو لنتخيل ما الذي ستفعله صورة امرأة ينهال عليها رجال النظام ضرباً لأنها خرجت في مظاهرة لأمهات يطالبن بمعرفة مصير أبنائهن المفقودين في سجون النظام، وهكذا كلما زادت هذه القصص والمشاهد رق حاجز الخوف في قلوب الناس وازدادت ثقتهم بإخلاص المقاومة وكفاءتها وحسن تنظيمها وتخطيطها وقويت السلطة الأخلاقية التي تملكها المقاومة وضعفت السلطة الرسمية التي يملكها النظام إلى أن تصل الأمور إلى الحد الذي تنتقل فيه السلطة الفعلية من النظام إلى المقاومة، هذه هي اللحظة التي ينكسر فيها حاجز الخوف تماماً وتصبح كلمة قادة المقاومة هي الكلمة المسموعة عند الناس، عندها وبكل بساطة سيسقط النظام الديكتاتوري كالورقة اليابسة! عند هذه النقطة لا يعود الهم الأول لقادة المقاومة هو كيف يشجعون الناس على الانخراط في المقاومة وإنما يصبح همهم الأول هو كيف يضبطون مشاعر الغضب عند الناس، تلك المشاعر التي انفلتت بعد كبت استمر لعشرات السنوات، وكيف يحمون أركان النظام ومناصريه من الانتقام، وهنا يكون الانتصار الثاني الذي يجب على قادة المقاومة أن يحرصوا على تحقيقه وهو النجاح في ضبط الناس وتكذيب نبوءة النظام الديكتاتوري بالفوضى التي ستعقب زواله، هذا النجاح يأتي نتيجة لإعداد الناس منذ بداية المقاومة لهذه المرحلة التي ستلي سقوط النظام الديكتاتوري وتدريبهم على عدم اللجوء إلى العنف للحصول على حقوقهم بل الاحتكام إلى القضاء والقانون وتلك هي الخطوة الأولى في طريق إخراج المجتمع من دائرة العنف والانتقال من دولة الأمن والإرهاب إلى دولة السياسة والمنطق والقضاء والقانون
أمثلة عن المقاومة السلمية
1- الهند: بدأت المقاومة السلمية في الهند ضد الاحتلال البريطاني عام 1930 عندما تمرد الهنود على القانون الذي يفرض ضرائب كبيرة على المواطنين الذين يستخرجون الملح ويجعل الدولة المحتكرة الوحيدة لتجارته، توسعت حركة التمرد ككرة الثلج المتدحرجة لتشمل الاجتماعات والمسيرات والخطابات الجماهيرية ومقاطعة البضائع البريطانية والإضرابات القصيرة. اعتقلت حكومة الاحتلال في عام واحد المهاتما غاندي زعيم المقاومة و100 ألف هندي من بينهم 17000امرأة، تعرض كثير من الناس للضرب وكانت هناك إصابات وسقط بعض القتلى، إلا أن التمرد استمر ولم ينتهِ إلا باتفاق بين حكومة الاحتلال وغاندي، وقد كانت الثقة التي اكتسبها الشعب الهندي بنفسه في هذا العام مقدمة لاحتجاجات أوسع انتهت بخروج المحتل الانكليزي وقيام أكبر دولة ديمقراطية على وجه الأرض وكل ذلك بفضل المقاومة السلمية التي انتهجها غاندي.
2-النرويج في عهد الاحتلال النازي: أراد الحاكم في النرويج في العهد النازي (فيدوك كويزلينغ) استخدام المدارس للدعاية للنظام الفاشي على غرار ما فعله موسوليني في إيطاليا وأقام منظمة للأساتذة لهذا الغرض، وأجبر جميع الأساتذة على الانضمام إليها وهدد من لم ينضم إلى تلك المنظمة بالطرد وإغلاق المدرسة التي يعمل فيها. لم يرضخ الأساتذة للتهديد ووصلت إلى مكتب الحاكم عشرات الألوف من الرسائل من أولياء الطلاب ترفض استخدام المدارس للدعاية الفاشية. أُغلقت المدارس فاستعاض عنها الأساتذة بالبيوت ولم تتوقف الدراسة، اعتُقل 1000 أستاذ وأرسلوا إلى معسكرات النازية وفي أثناء اعتقالهم وسوقهم بالقطار تجمع حولهم الآلاف من التلاميذ مع آبائهم وأخذوا يرددون الأناشيد الوطنية. في معسكرات الاعتقال سلط رجال الغيستابو (الشرطة السرية النازية) على الأساتذة جوّاً من الرعب وهددوهم بالقتل إن لم يرضخوا لمخطط استخدام المدارس للدعاية الفاشية، لكنهم لم يرضخوا مما شجع بقية الأساتذة – الذين لم يعتقلوا- على الصمود وخوفاً من تصاعد النقمة الشعبية أمر كويزينغ بإطلاق سراح الأساتذة بعد ثمانية أشهر من اعتقالهم وجاءه الأمر من هتلر بصرف النظر عن المنظمة التي أراد إنشاءها بغرض الدعاية للفاشية في المدارس
3-التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية: ظل السود في أمريكا لعقود من الزمن يتعرضون لسياسة تمييز عنصرية بغيضة إلى أن اندلعت المقاومة السلمية بقيادة مارتن لوثر كينغ والتي انتهت بإلغاء كل القوانين والممارسات العنصرية التي كان معمولاً بها في الولايات المتحدة الأمريكية
4-الثورة ضد نظام الشاه في إيران: كان نظام الشاه من أقوى وأرسخ الأنظمة الملكية في منطقة الشرق الأوسط وكان جهاز مخابراته (السافاك) مشهوراًُ بسطوته ووحشيته، وكان مدعوماً بلا حدود من الولايات المتحدة الأمريكية. كل ذلك لم يمنع الثورة السلمية التي اندلعت بقيادة الخميني من إسقاط نظام الشاه! ومن مشاهد تلك الثورة أن المتظاهرين كانوا يقدمون الورود للجنود الذين كان الشاه يرسلهم لقمع المظاهرات، وفي إحدى المرات طلب الخميني من ملايين الإيرانيين من سكان العاصمة طهران أن يخرجوا على شرفات منازلهم وسطوح البنايات في وقت محدد ويهتفوا جميعاً بصوت واحد (الله أكبر)! وتروي مذكرات الثورة أن المواطنين في إحدى المظاهرات استخدموا مكبرات الصوت لإذاعة أغنية وطنية مؤثرة فبدأ الجنود الذين أرسلوا لقمع المظاهرة بالبكاء، ثم أخذوا يعانقون المتظاهرين وانضموا إلى صفوفهم، ولا يخفى على أي دارس للثورة الإسلامية في إيران مقدار العنف والقسوة والوحشية التي جوبهت به هذه الثورة وهناك الكثير من الصور للجثث التي كانت تمتلئ بها شوارع طهران بعد كل مظاهرة حتى أن قوات الشاه استخدمت في إحدى المرات طائرات الهليكوبتر وأخذت تطلق النار على المتظاهرين من الطائرات بعد أن حاصرتهم في إحدى الساحات مما حول تلك الساحة إلى بحيرة من الدماء يسبح فيها عشرات الشهداء وبعد هذه الحادثة بالتحديد اتصل الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر بالشاه ليطمئنه إلى وقوف الولايات المتحدة إلى جانبه في مقاومة (أعمال الشغب) وبعد أيام من هذا الاتصال سقط نظام الشاه! إذن مع كل هذه الوحشية لم تخرج المقاومة في إيران عن نهجها السلمي واستمر اتساعها والتفاف الشعب حولها حتى أسقطت عرش الشاه
5- جنوب أفريقيا: استمرت الاحتجاجات السلمية على النظام العنصري في جنوب أفريقيا عشرة سنوات وذلك في دولة جنوب أفريقيا وفي كل أنحاء العالم مما أدى إلى مقاطعة هذا النظام من كل دول العالم ثم سقوطه في عام 1994
6- أوروبا الشرقية وغيرها من دول العالم: لقد أسقطت المقاومة السلمية الأنظمة الديكتاتورية في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبولندا، وأطاحت بشكل سريع ومهين بتشاوتشيسكي ديكتاتور رومانيا، وفي صربيا أطاحت الاعتصامات السلمية بنظام ميلسوفيتش وفي أوكرانيا أطاحت الثورة البرتقالية بالنظام الديكتاتوري هناك، وفي روسيا منعت الاحتجاجات السلمية نجاح انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط عام 1991، كما أن المقاومة السلمية هي التي أسقطت نظام ماركوس في الفلبين ومنعت نجاح انقلاب عسكري في تايلاند عام 1993. وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها كلها. في كل هذه الأمثلة أسقطت المقاومة السلمية أنظمة ديكتاتورية غاية في القسوة والدموية، أنظمة كان يتوهم المراقبون أنها من أكثر الأنظمة في العالم مناعة وتماسكاً، لكنها تهاوت ببساطة عندما توقف المطيعون (الذين تعتمد عليهم سلطة هذه الأنظمة) عن طاعتها
الخلاصة
إن الأنظمة الديكتاتورية هي أعظم خطر يهدد البشرية وأكبر مصدر لشقاء الإنسان وتعاسته في هذا العالم وأضخم عائق يحول دون رقي الإنسان وسعادته حيث يُترك المجال في هذه الأنظمة لأسوأ الناس في المجتمع لكي يقوموا بقتل وسجن ونفي وإسكات أفضل الناس فيه ومع ذلك فإن هذه الأنظمة تحمل بذور فنائها في داخلها وكلها بلا استثناء ستنتهي تحت أقدام شعوبها وأنصار الحرية هم الذين ينتصرون في نهاية المطاف لأن انتصارهم هو انتصار لكرامة الإنسان الذي وعد الله بتكريمه (ولقد كرمنا بني آدم). إن إسقاط الأنظمة الديكتاتورية لا يتم بالشكوى والأنين من ظلم هذه الأنظمة وبطشها، ولا باتهام الشعوب بالجبن والتخاذل، إسقاط هذه الأنظمة يحتاج إلى رؤية ملهمة واستراتيجية واضحة واستعداد للموت في سبيل الحرية! إن المقاومة السلمية هي معركة حقيقية تشبه المعركة العسكرية بما تحتاج إليه من تخطيط وكر وفر وشجاعة وبطولة وبما يسقط فيها من شهداء وجرحى وأسرى، المقاومة السلمية هي المعركة المصيرية التي لا بد أن يخوضها أي شعب اختار الحياة بدلاً من الموت والكرامة بدلاً من الذل والحرية بدلاً من العبودية
مراجع للاستزادة
- from dictatorship to democracy, a conceptual framework for liberation, Gene Sharp
- the political objective and strategic goal of nonviolent actions, Robert J.Burrowes
- strategizing for a living revolution, George Lakey
- the movement action plan, a strategic framework describing the eight stages of successful social movements, Bill Moyer
- why nonviolence? Introduction to nonviolence theory and strategy, David H. Albert
- trainingforchange.com
- Nonviolence.org
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي