المؤسسة السياسية عيب أم ضرورة
مهما تحدث مجموعة من الناس عن ضرورة وجود مستشفى تعالج المرضى، لن تصبح المستشفى واقعاً إلا إذا شكلوا فريقاً يدرس المشروع ويضع خطته ويجلب التمويل له ويفرغ مختصين للقيام بذلك سواء في مرحلة التخطيط أو التنفيذ أو بعد ذلك في مرحلة إدارة المستشفى عندما يكتمل البناء والتجهيز واختيار الكوادر.
سيكون مضحكاً أن يقول البعض لا داعي لفريق وخطة وتمويل ومختصين ومتفرغين لتصبح المستشفى واقعاً على الأرض. أنت لا يمكنك أن تقدم منتجاً أو خدمة للناس على نطاق واسع من دون مؤسسة لها هيكل وخطة وقيادة ومختصون ومتفرغون يعملون فيها وإلا سيبقى ذلك المنتج أو الخدمة مجرد فكرة في الرؤوس أو حبر على ورق.
ينطبق ذلك على كل المجالات الطبية والصناعية والتعليمية والسياحية وغيرها ولا أفهم كيف يستثني عاقل المجال السياسي من هذه البديهية. لا أفهم كيف يعتقد البعض أننا نستطيع من دون مؤسسة سياسية أن نضع رؤى وبرامج ونهيء كوادر تبني أوطاننا وتعالج التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي نمر بها.
يكتب البعض متفاخراً، أنا مستقل ولا أنتمي إلى أي حزب وكأن الانتماء إلى الحزب عيب يفخر الإنسان بالتبرؤ منه! طبعاً لا يعني ذلك ضرورة أن ينتمي كل الناس إلى أحزاب فهذه خياراتهم الشخصية لكنني أتحدث عن خلل ثقافي في نظرتنا إلى العمل السياسي المؤسساتي إذا لم نعالج هذا الخلل ستطول فترة التيه السياسي والوطني التي نعيش فيها.
على كل حال سأتجنب في ما تبقى من هذه المقالة كلمة (حزب) وأستبدلها بالـ(المؤسسة السياسية) سواء سماهاالقائمون عليها حزباً أم حركة أم تجمعاً أم كتلة أم تياراً أم أي تسمية أخرى. لقد أصبحت كلمة (حزب) مقترنة في أذهان الكثيرين بالبيانات والكلام الفارغ، بحب التزعم والرئاسة، بالتعصب للحزب والدخول في صراعات مع الأحزاب الأخرى على حساب القضية الوطنية، بالأحزاب الوهمية التي تضم شخصين أو ثلاثة، بالتجارب الفاشلة لأحزاب سابقة وبجملة من السلبيات التي جعلت من كلمة (حزب) ثقيلة على أسماع الكثيرين مع أن وجود أخطاء في التطبيق لا ينفي أن فكرة المؤسسات السياسية التي تعمل بشكل منظم للوصول إلى أهدافها في خدمة البلاد والعباد صحيحة في ذاتها بل هي ضرورة لا بد منها فالبديل عن هذه المؤسسات هو الاستبداد وحكم الفرد.
في حالتنا السورية ما زال النشاط الثوري الاحتجاجي ضرورياً لكن الاحتجاج لم يعد كافياً للإجابة على الأسئلة السياسية المعقدة التي تفرضها هذه المرحلة والتي تحتاج إلى إجابات تفصيلية يضعها مختصون وتنفذها مؤسسات سياسية. هناك تغيير سياسي على الأبواب – بغض النظر عن السيناريو الذي سيتم من خلاله التغيير – وهناك مرحلة انتقالية بحاجة إلى رؤية وبرامج، وهناك سورية القادمة التي يحتاج تحديد شكلها إلى عملية تفاوضية طويلة بين مكونات المجتمع السوري، وهناك مشروع الثورة في التخلص من الاستبداد الذي لم ينته بعد والذي مايزال مهدداً بالاختطاف والثورة المضادة، وهناك تحدي بناء الأمة و صناعة الشعور الوطني بعد أن مزقت حرب العصابة الأسدية أوصال المجتمع، وهناك تحدي التخلص من الاحتلالات والتدخلات الخارجية، وهناك تحدي العدالة الانتقالية واللاجئين وإعادة الإعمار، كل ما سبق ملفات كبيرة تحتاج إلى برامج تفصيلية يضعها مختصون متفرغون ويحتاج إلى عمل مؤسساتي لا تنهض به إلا المؤسسات السياسية.
نحن بحاجة إلى مؤسسات سياسية قوامها السوريون الأحرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وفي المهجر لتكتسب القاعدة الشعبية وتحظى بالشرعية اللازمة للفعل السياسي، مؤسسات تجعل مبادئ الثورة بوصلتها الأخلاقية وتعرف كيف تكسب ثقة الداخل والخارج لتتمكن من المناورة اللازمة لتحقيق هذه المبادئ، مؤسسات تنشر الوعي السياسي بين شباب الثورة وشاباتها ليعرفوا أدوارهم في هذه المرحلة وتشكل المنصة التي تطلق مواهبهم وتصنع منهم قادة المستقبل، مؤسسات توظف الموارد البشرية والمادية في الداخل والخارج من أجل إعداد البرامج والكوادر القادرة على تنفيذها، مؤسسات تعمل لمصلحة كل السوريين بمن فيهم السوريون المغلوبون على أمرهم في مناطق النظام، مؤسسات سياسية تتعاون وتتحالف وتتكامل للتصدي للتحديات الوطنية الكبرى التي لا تستطيع أي مؤسسة منها أن تتصدى لها بمفردها. نحن بحاجة إلى هذه المؤسسات وإلا فالأحزاب المصنعة في الخارج التي يحركها المال السياسي ستتولى دفة المرحلة القادمة ولن يكون باستطاعتنا أكثر من الاحتجاج.