فأمره ونهاه.. فقتله
يعتقد البعض أن معارضة الإمام الجائر الذي يسجن أو يقتل من يعارضه هو نوع من السلبية والانتحار والتهور وعدم حساب الأمور بشكل صحيح، فما الفائدة التي ستجنيها الأمة إذا اعترض رجل على الإمام الجائر فسجنه أو قتله؟! أليس أولى بهذا الرجل أن يظل ساكتاً ويبقى طليقاً وعلى قيد الحياة؟ أليس أولى بهذا الرجل بدلاً من أن يعترض على الإمام الجائر فيُسجن أو يُقتل أن يدع الإمام الجائر وشأنه ويلتفت إلى (بناء المجتمع) بدعوته إن كان داعياً أو بتجارته إن كان تاجراً أو بعلمه إن كان أستاذاً أو طبيباً أو مهندساً؟ هذه أسئلة مشروعة تحتاج إلى إجابات مقنعة وعلى الأرجح أن من يطرحها إنما يطرحها بدافع الحرص على مصلحة الأمة ولكي يجنبها التفريط برجالها من دون طائل. في جوابي على هذه الأسئلة أقول
أولاً، في المجتمع الذي يستكين استكانة تامة للإمام الجائر الذي يجعل نفسه إلهاً فوق أي نقد أو محاسبة لا مجال على الإطلاق لأي (بناء) لأن هذا الإمام الجائر سيكون ذا سلطة مطلقة و(السلطة المطلقة مفسدة مطلقة) وبالتالي فإن هذه السلطة ستفسده وتجعله ذئباً متوحشاً لا يهمه إلا الإبقاء على سلطته ولو سجن في سبيل ذلك وقتل عشرات الألوف! وبما أن هذا الإمام لا يستطيع لوحده أن يحافظ على سلطته فسيستعين بدائرة من الجائرين الصغار الذين يتمتعون بما يتمتع به من وحشية وشبق إلى السلطة والمال واستعباد البشر وكل واحد من هؤلاء الجائرين الصغار سيجمع حوله أيضاً دائرة من الجائرين الأصغر وهكذا ينقسم المجتمع إلى قسمين: قسم ضئيل من الجائرين الذين يعيشون فوق أي قانون أو قضاء أو محاسبة وقسم كبير من (المستسلمين للجور) الذين يعملون ليل نهار ليؤمنوا للقسم الأول ما يحتاج إليه ليشبع شهواته في السلب والنهب واستعباد البشر. هذا الوضع البشع القائم على الظلم والاستغلال لا يمكن أن تنجح معه أي دعوة إلى (البناء والإصلاح) من دون مواجهة مباشرة مع الإمام الجائر و(منظومة الجور) التي يقودها
ثانياً، عندما يسجن الإمام الجائر أو يقتل رجلاً يقول الحقيقة ويذكره بأنه بشر وليس إلهاً، سينقسم الناس حيال ذلك إلى قسمين: قسم سترسخ قناعته بأن لا فائدة من قول كلمة الحق في وجه الإمام الجائر، وقسم ستزداد قناعته بخطورة الجور على المجتمع وبضرورة إنقاذ الناس من هذا الوضع الجائر وسيرتفع احتمال خروج رجل آخر يعارض الإمام الجائر، فإذا قام هذا الإمام بسجنه أو قتله سينقسم الناس حيال ذلك إلى قسمين كما حدث في المرة الأولى وهكذا سيزداد عدد أفراد القسم الثاني وستذكي قيود ودماء الرجال الشجعان الصادقين عزيمة هذا القسم وشجاعته ورغبته في التغيير إلى أن يصل كماً ونوعاً إلى الكتلة الحرجة القادرة على تخليص المجتمع من منظومة الجور والاستبداد. وهنا يطرح نفسه السؤال التالي: لماذا افترضنا أن القسم الثاني هو الذي سيتوسع ويقوى وليس القسم الأول، أي لماذا لا نقول إن القسم الأول المقتنع بعدم جدوى المعارضة هو الذي سيتوسع كلما سجن الإمام الجائر أو قتل رجلاً يعارضه إلى أن يستكين المجتمع بالكامل وتختفي منه أية معارضة ويصبح جثة هامدة ينهش منها الإمام الجائر وأعوانه كما يشاءون؟ جوابي على هذا السؤال يتلخص في نقطتين
1- لو كان سجن الإمام الجائر للرجل الذي يعارضه أو قتله سيزيد من عدد الصامتين ويقلل عدد المعارضين لنجحت الأنظمة الاستبدادية المعتمدة على القهر والبطش والتخويف في القضاء على أية معارضة ولظلت قائمة إلى أبد الآبدين، لكن التاريخ يثبت عكس ذلك تماماً إذ أن كل أنظمة الجور في التاريخ (كلها بلا استثناء) أطاحت بها شعوبها وذهبت إلى مزابل التاريخ، فالمجتمعات الإنسانية مفطورة على حب الحرية والعزة والكرامة وكره الظلم والاستبداد، والفطرة البشرية هي التي تنتصر في نهاية المطاف
2- إن كل ما في ديننا الحنيف من آيات وأحاديث يحض على محاربة الظلم والوقوف في وجه الظالمين المتألهين ولو دفع الإنسان حياته ثمناً لذلك : قال عليه الصلاة والسلام "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله
وقال عليه الصلاة والسلام " لتأمرون بالمعروف، و لتنهون عن لمنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم
وقال أيضاً "إذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمكم بعذاب من عنده"
وقال تعالى " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار
وأخيراً أقول، إن دور المعارضة الصريحة للجور لا ينفي الأدوار الأخرى من العمل الإصلاحي الهادئ الذي لا يحتاج إلى الاصطدام بالإمام الجائر، بل إن الشخص ذاته يمكن أن يلعب أكثر من دور بحسب ما تمليه حاجة المرحلة، فكل هذه الأدوار والجهود يكمِّل بعضها بعضاً في عملية النهوض بالمجتمع وتخليصه من براثن الاستبداد والاستغلال
إذن علينا أن نشجع كل من يوفقه الله إلى قول كلمة الحق وأن نشيع في المجتمع ثقافة رفض الظلم وقول الحقيقة والتضحية في سبيل ذلك. علينا أن نفعل ذلك بحسب استطاعتنا، الكاتب من خلال قلمه والخطيب من خلال منبره، إذا لم نستطع نشر هذه الثقافة جهراً فلننشرها همساً، وإذا لم نستطع أن ننشرها في الناس من حولنا فلنكتف بنشرها في بيوتنا وتربية أولادنا عليها، فإذا لم نستطع ذلك فلندع الله في سرنا أن يزيد في الأمة أعداد الرجال الصادقين المستعدين لدفع حياتهم ثمناً لقول الحقيقة فالتاريخ يعلمنا أن الأمم لا تنتصر على من يستبد بها ويعتدي على إنسانيتها وحريتها وكرامتها إلا بهؤلاء الرجال
2006 - الدكتور ياسر تيسير العيتي