دروس من التجربة التركية
تحكي إحدى الأساطير أن أميراً تزوج إحدى الساحرات فقالت له: يمكنني أن أكون جميلة في الليل وقبيحة في النهار أو العكس فماذا تختار؟ فقال لها: سأترك لك حرية الاختيار، فقالت: إذن سأكون جميلة في الليل والنهار معاً. تُستخدم هذه القصة للإشارة إلى أن المرأة عندما تُعطى حرية الاختيار فإنها تختار الأفضل وتكون في أجمل حالاتها وفي رأيي أن هذا الأمر ينطبق على الشعوب أيضاً. فالشعوب عندما تُرفع عنها قيود الاستبداد وتُعطى حرية الاختيار فإنها تختار الأفضل وتكون في أجمل حالاتها. أن يشارك 80% من الشعب التركي في الانتخابات الأخيرة وأن يقطع كثير من الأتراك إجازتهم الصيفية في هذا الجو الحار من أجل الإدلاء بأصواتهم وأن يفوز حزب العدالة والتنمية بنسبة 47,6% من الأصوات (كان قد فاز بنسبة 34% في انتخابات 2002) وأن تشهد تركيا تحت حكم هذا الحزب فترة من الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي لم تعرف مثلها من قبل، كل ذلك يدعونا إلى التوقف قليلاً عند هذه التجربة التركية من أجل استخلاص الدروس و العبر. أعتقد أن هناك أربعة دروس أساسية من التجربة التركية يمكن لأربعة أطراف أن تستفيد منها
الدرس الأول الذي يمكن أن يستفيد منه الإسلاميون: لم ينشغل حزب العدالة والتنمية برفع الشعارات التقليدية التي يرفعها الإسلاميون عادة مثل (الإسلام هو الحل) أو (إقامة حكم الله في الأرض) بل انشغل بتلبية حاجات الناس وتنفيذ البرامج التي تحل مشاكلهم وتنعكس إيجابياً على واقعهم وحياتهم اليومية أما إسلاميته فلم تكن تتجلى في الشعارات ودغدغة العواطف الدينية وإنما في أخلاقيات رجاله وسلوكهم وفي كفاءتهم السياسية ومهاراتهم الإدارية والتنفيذية (هذا لا يعني أنهم ملائكة منزهون عن الخطأ فحتى الصحابة لم يكونوا كذلك!). لقد رضي حزب العدالة والتنمية باللعبة الديمقراطية بكل صدق وأدرك أن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع سيبقيه في حالة من التيقظ والمراجعة والتطوير والعمل الجاد في خدمة الناس لأن هؤلاء الناس لن ينتخبوه مرة أخرى إن لم يثبت جدارته. لو كان أداء أردوغان سيئاً في أثناء حكمه لتركيا لم يكن ليحظى بهذا التأييد الواسع ولما شفعت له (إسلاميته) ولا زوجته المحجبة الواقفة بجانبه، بل كان خصومه سيستغلون فشله للدلالة على أنه انتهازي يتاجر بالدين ويستغل عواطف الناس الدينية لإخفاء عيوبه
الدرس الثاني الذي يمكن أن تستفيد منه الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي: لا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي إلا في ظل الديمقراطية. ولو أن الطبقة العسكرية في تركيا أسست حزباً شمولياً لتحكم تركيا من خلاله وعطلت الحياة السياسية في تركيا بشكل كامل وزجت بالمعارضين السياسيين في السجون لكان المشهد التركي مختلفاً تماماً عن المشهد الحالي. إن الأنظمة التسلطية المستبدة لا تحفر باستبدادها قبر الشعوب التي تحكمها وحسب وإنما تحفر قبرها أيضاً
الدرس الثالث الذي يمكن أن تستفيد منه الشعوب العربية: هو أن السلبية والانسحاب من الحياة السياسية لا يحقق أمناً ولا يرفع مستوى المعيشة بل العكس هو الصحيح ولو كان الشعب التركي من ذلك النوع الذي يرفع شعار (ما دخلنا) و(يصطفلوا) و(بيروح الشبعان وبيجي الجوعان) لكانت ثروات تركيا وخيراتها نهباً لمجموعة قليلة من المستبدين الذين يعيشون دون أي مساءلة أو محاسبة
الدرس الرابع الذي يمكن أن تستفيد منه الدول الغربية: هو أن الاستقرار لا يتحقق في المنطقة ما لم يعطَ الإسلاميون المعتدلون فرصتهم في العمل السياسي، وأن دعم الأنظمة الاستبدادية وما تصنعه من يأس واحتقان في المجتمع هو الذي يهيئ الظروف للتطرف والفوضى وزعزعة الاستقرار في المنطقة وفي كل العالم
أخيراً إن منح حرية الاختيار كمدخل للارتقاء بالأفراد والجماعات ليس اختراعاً غربياً بل هو حق طبيعي منحه الله لكل إنسان {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الكهف - 29 - {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} الغاشية – 21،22 – وما منحه الله للإنسان لا يحق لأحد أن ينتزعه منه
2007 - الدكتور ياسر تيسير العيتي