الإسلام الفطري ودوره في الثورات العربية

ما إن لاحت تباشير الربيع العربي في تونس الخضراء، حتى انتقلت نسائمه مسرعة في البلاد العربية، محيية الموات، وناشرة الأمل، فقطع الشعب العربي في شهور عديدة على طريق الحرية والكرامة، ما لم يستطع قطعه في عقود من الزمن، ولأن الله قد جعل لكل أجل كتاب، فإن ما زرعه الله في نفس كل إنسان سوي من عشق للحرية وتوق إلى الكرامة، ظل يعتمل في نفوس العرب عقوداً من الزمن، إلى أن بلغ السيل الزبى، وفار التنور، ولم يعد لدى الشعب قدرة على احتمال ما ينزل به من ظلم وضيم، وأصبح التخلف الذي حشره فيه الاستبداد خطراً وجودياً على حضارته وهويته، فانفجر الربيع العربي في تونس ناثراً أزاهيره في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وما زالت الثورة في بدايتها، وهي لن تضع أوزارها حتى يعود العرب والمسلمون أمة حرة كريمة لها مكانتها بين الأمم كما أرادها الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة -143

ومما تتميز به الثورات العربية، أنها رفعت شعار الحرية والكرامة، ولم ترفع الشعارات الإيديولوجية الكبيرة التي رفعتها كثير من الأحزاب في عقود الاستبداد سواء تلك التي حكمت أو تلك التي عارضت، إذ أدرك الشعب العربي بفطرته أن الانتصار في القضايا الكبيرة وتحرير الأرض وإثبات الوجود الحضاري لا يمكن أن يتم على أيدي شعب يقيده الخوف ويسحقه الاستبداد فكان لا بد من الحرية والكرامة أولاً قبل أي مشروع سياسي أو حضاري يعيد للأمة مكانتها ورفعتها

لا يمكن لعين بصيرة أن تخطئ الدور الذي لعبه الإسلام في هذه الثورات، وأنا هنا لا أتحدث عن الخطاب الإسلامي التقليدي الذي خدّر الناس قروناً من الزمن وبرر للطغاة ظلمهم وأوقع الأمة في الوهم عندما ألقى في روعها أنها بين خيارين: إما استبداد يجلب لها الأمن والاستقرار، أو حرية توقعها في الفتن والفوضى، وحاشا لله أن يخلق الناس ليكونوا بين هذين الخيارين السيئين !! وإنما أتحدث عن الإسلام الفطري، نقياً كما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، واضحاً جلياً كما فهمه ذلك الأعرابي الذكي عندما قال: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العالمين ، الإسلام الفطري الذي يحطم القيود ويحرر النفوس من العبودية إلا لله تعالى والذي عبر عنه عمر بن الخطاب عندما وبخ ابن عمرو بن العاص الذي ضرب أحد أبناء مصر قائلاً له: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً

لقد أصبحت توكل كرمان الفتاة المسلمة المحجبة التي نالت جائزة نوبل للسلام رمزاً للفهم الصحيح للإسلام، الإسلام الفطري، الذي ينتشل الإنسان من وهاد السلبية والاستسلام للواقع السيء، ويحلق به في آفاق الإيجابية والفعل والإنجاز والقدرة على التغيير.  أما في سورية فقد ظهرت القيم الإسلامية الفطرية في شعارات الثوار في كل مدينة وقرية سورية: قيمة الحرية والكرامة (هي والله .. هي والله .. ما بنركع إلا لله)، قيمة الإخلاص لله والترفع عن حطام الدنيا (هي لله .. هي لله .. لا للسلطة أو للجاه)، قيمة الاتكال على الله وحده (يا الله .. يا الله .. ما لنا غيرك يا الله)، وظهرت قيمة البطولة والشجاعة وحب الشهادة في صور المئات من الشباب الذي تصدوا للرصاص بصدورهم العارية فلما جندلتهم يد المنية في ساحات العزة والكرامة رفعوا أصابعهم بالشهادتين مستقبلين جنة عرضها السموات والأرض، وظهرت قيمة التكافل والتراحم والتعاون، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)، فدرعا تهتف (يا حماة حنا معاك للموت) وحماة تهتف (يا دير الزور نحن معاك للموت)، وكل مدينة بل كل حي يهتف نصرة للمدن الأخرى والأحياء الأخرى، وهناك مئات من القصص والتفاصيل الصغيرة التي سيخلدها التاريخ والتي تتحدث عن حالة التعاون والتكافل التي يعيشها السوريون اليوم، وظهرت قيمة المبادرة وتحمل المسؤولية والإيمان بالقدرة على الفعل والقدرة على الإنجاز والقدرة على التغيير في سلوك آلاف الشباب الذي يخططون يومياً دون تعب أو كلل للتظاهر وفرض إرادتهم وإيصال صوتهم متجاوزين أصوات التخويف والتوهين والتيئيس من حولهم عاملين  بنصيحة الرسول عليه الصلاة والسلام: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، كل هذه القيم الإسلامية الفطرية، التي لعبت دوراً أساسياً في انطلاق الثورة السورية واستمرارها، كانت كامنة في جينات السوريين فجاءت شرارة الثورة لتخرج هذا الكمون وتفسح له المجال ليعبر عن نفسه، وهكذا عادت فطرة السوريين إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد، الإسلام الذي يدعو إلى العزة والكرامة نافضة عنه ما تراكم عبر مئات السنين من فتاوى علماء السلاطين التي جعلت الإسلام في خدمة السلطان بدل أن يكون من أجل رفعة الإنسان وكرامة الإنسان

هناك من يتخوف من أن تأتي هذه الثورات بالتطرف  إلى سدة الحكم، متجاهلين أن التطرف والتعصب، إنما ينشأ في أجواء القهر والاستبداد، بل إن الاستبداد غذى التطرف وشجعه ليجعله فزاعة في وجه الغرب وفي وجه الشعوب، فزاعة تبرر وجوده لحماية الآخرين من هذا التطرف، وهي لعبة قد انتهت وخدعة قد انكشفت. إن فهماً وسطياً معتدلاً للإسلام إنما يتبلور ويترسخ في المجتمعات في أجواء الحرية واحترام الكرامة الإنسانية، وكما لعب الإسلام  من خلال منظومته القيمية والأخلاقية  دوراً مهماً في انطلاق الثورات العربية  فسيلعب في أجواء الحرية والانفتاح والتنافس السياسي الشريف دوراً أساسياً في بناء دول تسودها العدالة والكرامة وتحقق الأمن والرفاه لكل مواطنيها

5/1/2012